حديقة أندلسية في قلب فاس العتيقة يرتادها الباحثون عن الظلال والهدوء والذكريات

أشجار «جنان السبيل» جلب بعضها في القرن الثامن عشر من الصين والهند

منظر عام لأشجار حديقة «جنان السبيل» («الشرق الأوسط»)
TT

تقترن حديقة «جنان السبيل» تلقائيا بمدينة فاس العريقة. تتوفر هذه الحديقة على سبعة أبواب حديدية ضخمة مزركشة، وبداخلها نافورات وجداول وأحواض تشبه في شكلها ومرافقها حدائق الأندلس، وهناك أيضا مستطيلات ومربعات عشب وأزهار وأشجار كثيرة من مختلف الأنواع، يقدر عددها بنحو ألف نوع، منها ما هو نادر ولا يوجد مثيل له إلا في الصين والهند، مثل أشجار «الخيزران» التي غرست قبل قرون في هذه الحديقة المدهشة.

أفواج من الناس تأتي إلى حديقة «جنان السبيل» في العصر، وهم يدخلون الحديقة من أبوابها الضخمة، المفتوحة على أسوار «المدينة القديمة». الكثير من النساء والأطفال متلهفون لكي يتبوأوا مكانا مريحا داخل الحديقة، سواء على مقاعدها الحديدية القديمة أو فوق دكاتها الإسمنتية أو تحت الظلال الوفيرة لأشجارها، أو التجول بين جداول مياهها وممراتها الرحبة.

وبعد أن يختتم العابرون جولة مطولة في أزقة «المدينة القديمة» عبر «أبي الجنود» أو كما يسميها المغاربة «بوجلود» أو «البطحاء» أو «الملاح»، فإنهم لا بد أن يمروا حتما بحديقة «جنان السبيل» حيث الاخضرار يمتد عدة هكتارات ومذاق السكينة هو الطاغي، وبعد دخول الحديقة يجد الزائر نفسه في فضاء طبيعي سمته الهدوء والجمال الطبيعي، وهو يختلف تماما عن ما يوجد خارج الحديقة من ضيق، حيث عتمة الدروب الضيقة وصخب الحياة اليومية في فاس «العتيقة».

يقول محمد بن عبد الجليل أستاذ التاريخ «تأسست حدائق جنان السبيل في القرن الثامن عشر من طرف السلطان مولاي عبد الله داخل موقع تاريخي لمدينة فاس، وكانت عبارة عن غابة صغيرة تقع بين منطقتي «أبي الجنود» و«فاس الجديد»، وأمر السلطان مولاي عبد الله بإزالة الحشائش والنباتات الصغيرة منها، ثم أمر السلطان الحسن الأول بغرس صف النخيل بعد أن حرص على إقامتها وسط المدينة القديمة ووفر فيها كل سبل الاخضرار والحياة، واستقدم إليها مغروسات من «بر النصارى» (أوروبا)، حتى ظلت تعد من أجمل وأكبر الحدائق بالمغرب، وهي شبيهة بالحدائق الأندلسية في مجال هندسة المغروسات وطريقة تصفيفها وتصريف المياه عبر الجداول والبحيرات التي ما زالت شاهدة على العصر الذهبي للحديقة».

وأردف بن عبد الجليل: النباتات الفريدة والتنظيم المميز جعل من حديقة «جنان السبيل» جوهرة في عقد التقاليد العربية الأندلسية، فهذا الفضاء المشبع بالتاريخ، يعتبر أقدم وأعرق حديقة مفتوحة للناس في المغرب.

يرتاد الحديقة عدد كبير من المسنين ممن ما زالت تربطهم مع «جنان السبيل» علاقة حميمة قديمة منذ سنوات الخمسينات والستينات، إذ يقبل عليها عدد كبير منهم مساء كل يوم ينهمكون في نقاشات جماعية وسط الحديقة أو يتحلقون حول لعبة الورق، من بينهم الحاج محمد بلغازي الذي يتذكر مجد الحديقة بكثير من الأسى والحنين: كنا صغارا نرافق أسرنا في كامل الاحترام والشغف إلى «جنان السبيل» حاملين ما يكفي من الأكل لوجبة الغداء أيام الجمعة وفي الأعياد، وكانت الحديقة تمثل حينذاك قمة المتعة والراحة، كنا نستمتع بتدفق المياه العذبة والمساحات الخضراء الشاسعة والشراع التي كانت تجوب البحيرة الضخمة طولا وعرضا والسمك الذي كان يملأ بحيرات الحديقة الصغيرة.

الحديقة التي شكلت تاريخيا ما زالت مكانا مفضلا لالتقاء العشاق، ما زال يقصدها الكثير من الشباب والشيوخ لأجل الاستماع للأغاني الكلاسيكية لكبار المطربين أمثال محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأم كلثوم وليلى مراد، التي تشنف أسماعهم طوال اليوم انطلاقا من المقهى الوحيد المتبقي داخل الحديقة، ويدعى «الناعورة»، الذي ما زال محافظا على طابعه التقليدي وإطراب رواده بأغان قديمة، حيث ما زال الكثير ممن لهم ذكريات خاصة بجنان السبيل يقصدون هذا المقهى من أجل استرجاع تلك الذكريات. يقول حميد الصايل، أحد رواد «جنان السبيل» الأوفياء «أزور الحديقة نحو ثلاث مرات في الأسبوع رغبة في فترة راحة وسط فضاء طبيعي أخضر هادئ، ذلك أن هذه الحديقة التاريخية، ذات الطراز الأندلسي والواقعة في قلب المدينة القديمة، تستقطب وبشكل دائم الكثير من سكان المدينة وزوارها، هربا من طقس فاس الحار خاصة خلال فترة الصيف».

وقد كتب المؤرخون الكثير من الروائع والذكريات عن «جنان السبيل» ونظم حوله الشعراء والزجالون الكثير من قصائد المدح، وتغنى به عدد من المطربين، فهذه الحديقة التاريخية ما زالت حاضرة في وجدان الكثير من سكان المدينة وزوارها، وما زالت تحتفظ بتوهجها.

حديقة من الماضي متناغمة مع الحاضر، وقادرة على الصمود مستقبلا.