«جذور عربية».. قصة التبادل العلمي والحضاري بين إنجلترا والعالم الإسلامي

مخطوطات ولوحات نادرة لسفراء مسلمين في لندن .. وقصة أقدم نقش عربي في بريطانيا

نافذة من الزجاج الملون تحمل شعار الجمعية الملكية للصيدلة، الذي يصور العالم المسلم ابن سينا
TT

يُقام في مقر الجمعية الملكية بلندن معرض «جذور عربية»، الذي يغوص في أرشيف ومكتبة الجمعية العريقة التي أسست العلم الحديث منذ 350 عاما، لاكتشاف علاقات مع العالم العربي والإسلامي انعكست على البحث العلمي في بريطانيا تحديدا. عبر مجموعة من الرسائل النادرة والوثائق والصور يقدم المعرض جانبا مجهولا لعمل الجمعية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، الذي رافق نهضة علمية استمدت الكثير من مقوماتها من الاطلاع على التراث العلمي العربي.

الدكتورة ريم تركماني، وهي عالمة فيزياء فلكية سورية وزميلة باحثة في الجمعية الملكية، قضت أربع سنوات في التحضير للمعرض، غاصت خلالها في أرشيف الجمعية ومكتبتها، واكتشفت من خلال بحثها عددا من الوثائق المنسية والمجهولة أرخت لتاريخ علمي أوروبي اعتمد على جذور عربية من كتابات ابن الهيثم وابن سينا والبتاني والصوفي وغيرهم من علماء المسلمين.

تقول ريم تركماني خلال جولة لـ«الشرق الأوسط» في المعرض إن الفكرة ولدت منذ 4 سنوات، عند زيارة الشيخة موزة المسند زوجة أمير قطر ورئيسة مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع لمقر الجمعية، وقتها عرض لها مسؤولو الجمعية بعض الكتب العربية النادرة من مقتنيات المكتبة، وهو ما أثار اهتمام تركماني، «بعدها قمت بعملية بحث في أرشيف الجمعية واكتشفت أشياء كثيرة، منها مجموعة من الكتب العربية غير المؤرشفة ومجموعة من الكتب العربية المترجمة إلى الإنجليزية واللاتينية، وجدت أيضا كثيرا من الكتب العربية ككتب لابن سينا وابن الهيثم بالمكتبة، كما قمت أيضا بالبحث في أرشيف الجمعية الذي يحتوي على كل مراسلاتهم العلمية على مدى 350 عاما، فوجدت فيها إشارات إلى تلك الكتب، فهي لم توضع في المكتبة فقط، وإنما استخدمت في البحث العلمي أيضا».

وامتد البحث من مكتبة الجمعية الملكية إلى المكتبة البريطانية التي تضم مجموعات ضخمة من الكتب والمخطوطات العربية، وأيضا مكتبة بودليان بأكسفورد، التي تضم آلاف المخطوطات المماثلة، والتي اشترى أغلبها ويليام لود أسقف كانتربري في القرن السابع عشر. ضخامة المادة كانت تحديا لتركماني، التي قررت منح قسم كبير من وقتها للبحث في الوثائق، ولكنها وجدت أن المادة ثرية ومتشعبة وبالتالي تقدمت إلى الجمعية الملكية بطلب لإقامة معرض حول الموضوع، كما حصلت على دعم ورعاية من مؤسسة قطر ومؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة.

المعرض لا يقدم تاريخا فقط، بل يعتمد على التوثيق بالأمثلة لكيفية استخدامها لحل بعض المشكلات العلمية في تلك الفترة، وعلى الرغم من صغر حجمه، فإنه يضم مجموعة قيمة وثرية من الكتب الأثرية والخطابات والمعدات العلمية التي تروي قصة التبادل العلمي والحضاري بين إنجلترا والعالم الإسلامي في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

تتصدر مدخل المعرض لوحتان ضخمتان لرجلين شرقيي الملامح يرتديان الملابس العربية، هما سفيران للمغرب لدى بريطانيا، الأول محمد بن حدو، الذي عمل سفيرا لبلاده في لندن في عام 1684، والآخر محمد بن علي أبغالي، الذي عمل في لندن في الفترة ما بين 1725 إلى 1727. اللوحات مرسومة بأسلوب بديع يركز عل تفاصيل الملبس الشرقي والألوان الدافئة التي توحي بعالم الشرق دائما، السفيران كانا أيضا مع زميل ثالث لهما هو قاسم آغا من أعضاء الجمعية الملكية في تلك الفترة، حقيقة كانت شبه مجهولة كشف عنها بحث تركماني في أرشيف الجمعية.

تقول تركماني إن اللوحتين تعكسان انطباعا إيجابيا ساد في القرن السابع عشر عن العرب والمسلمين، وانعكس في مجالات أخرى، كالفن، وحتى في الجمعية الملكية التي عينت الثلاثة كزملاء فيها، وهو شرف كان يعطى لأشخاص مختارين ولأقلية نادرة.

السفير بن حدو زار الجمعية الملكية لدى عمله بلندن، وقد قام روبرت هوك بتسجيل وقائع الزيارة وقتها، كما وصفه جون ايفلين، وهو أحد أعضاء الجمعية في تلك الفترة، بأنه «وسيم وأنيق ومظهره حكيم وحضاري جدا»، كما وصفه بأنه «موضة العصر». تضيف تركماني أنها لدى بحثها في أرشيف الجمعية وجدت رسائل من أبغالي لزملاء آخرين بالجمعية الملكية قبل وبعد أن أصبح سفيرا، «كان واضحا منها أنه له علاقات قوية بالمجتمع البريطاني، ويظهر من محاضر الجمعية تفاصيل زيارته لمقرها، واطلاعه على التجارب العلمية التي أجروها بها».

الزميل الآخر الذي عين بالجمعية في تلك الفترة كان سفير ليبيا، قاسم آغا، الذي قام بإلقاء محاضرة بالجمعية حول لقاح الجدري الذي كان لا يزال موضع التجارب في إنجلترا، على الرغم من شيوعه بالعالم الإسلامي، «أعرب آغا من خلال محاضرته عن استغرابه من أن البريطانيين ما زالوا يعتبرون اللقاح أمرا جديدا، وروى لهم أنه أمر معتاد وكيف أن أباه قام بتلقيحه هو وإخوته السبعة، وقام من خلال المحاضرة بإعطائهم النسب العلمية حول نسبة النجاة والسلامة، ووصف لهم كيفية التلقيح. ترجمت هذه الرسالة إلى الإنجليزية، ثم نشرها أحد زملاء الجمعية في كتاب حول اللقاح ضد الجدري».

المعروضات المقدمة هنا تتعلق بالثورة العلمية في بريطانيا، والعلاقات بين أوروبا والعالم المسلم، التي تشعبت في تلك الفترة ما بين السياسية والتجارية التي مثلتها البعثات التجارية في حلب وأزمير وإسطنبول وشمال أفريقيا.

تقول تركماني: «العلاقات بن أوروبا والعالم المسلم ازدهرت عبر شركة الشرق التي احتكرت التبادل التجاري مع الشرق. وكان لها أكبر فرع لها في حلب، وبالتالي وجدت جالية إنجليزية كبيرة في حلب، توافد عليها الأطباء والمعلمون ورجال الدين الذين درسوا اللغة العربية، وبعضهم قاموا بتدريس اللغة العربية في بريطانيا. العلاقات التجارية دعمت التبادل الحضاري والعلمي، فكان التجار المقيمون بحلب يشترون المخطوطات العلمية العربية والفارسية بأي ثمن، ويبعثونها إلى إنجلترا».

من خلال إحدى منصات العرض الزجاجية نرى رسالة من الملك تشارلز الأول إلى شركة الشرق، يطلب منهم أن تحمل كل سفينة مغادرة من حلب إلى إنجلترا على الأقل مخطوطة واحدة، وهو ما يشير إلى ازدهار حركة شراء المخطوطات واهتمام الملوك في تلك الفترة بها. المخطوطات كانت وسيلة للاطلاع على زخم هائل من المعلومات التي ترتبط بكل مناحي الحياة، وللاستفادة منها أيضا في البحث العلمي. وكان من الطبيعي أن يولد هذا الاهتمام الرغبة في تعلم اللغات التي كتبت بها تلك المخطوطات، وهو ما قام به أعضاء الجاليات الإنجليزية في دول المشرق، وعادوا بعد ذلك إلى بلادهم لتعليم تلك اللغات في الجامعات.

وكمثال على ذلك الاهتمام، تشير تركماني إلى أن أسقف كانتربري، ويليام لود، كان له عملاء يشترون الكتب والمخطوطات العربية، بل إنه قام بتعيين أول أستاذ للغة العربية في أكسفورد، وخصص وقفا لتمويل كرسي باسمه لا يزال موجودا حتى الآن، تحت اسم «لوديان تشير أوف أرابيك» في عام 1636. في نفس الخزانة يوجد فرمان للوالي العثماني مراد خان يسمح للتجار الأوروبيين بالشراء والمتاجرة في الكتب العربية. وللفرمان خلفية تشير إليها تركماني قائلة إن مطابع آل ميديتشي بإيطاليا قد طبعت الكثير من الكتب العربية بالفعل، وقام بعض التجار بمحاولة بيعها بالعالم العربي، وهو ما أثار الشكوك والمتاعب لهم مع السلطات وقتها، ومن هنا جاء فرمان السلطان مراد الذي فتح الباب أمام تجارة المخطوطات والكتب العربية في أوروبا والعالم العربي.

ويوجد إلى جانب الفرمان مثال على استخدام السفارات والبعثات التجارية لاستيراد المعرفة؛ فتشير ريم إلى رسالة من سكرتير الجمعية الملكية إلى القنصل بحلب يطلب منه معلومات عن البلد، والأشياء التي تتميز بها، نلاحظ الأسئلة الموجودة في الخطاب هنا تشمل كل شيء، حتى تفاصيل الحياة الدقيقة، مثل سؤاله عن كيف تقشير الرز، واستخدام الأعشاب وما هو سر خلطة الصلب الدمشقي».

تقول تركماني إن حركة المخطوطات وترجمتها أنتجت عددا من الخبراء باللغة العربية والفارسية يعيشون في أوروبا وبريطانيا تحديدا، وكانوا دائما على تواصل مع العلماء، وكان هناك زملاء للجمعية الملكية، مثل جون واليس، وهو عالم رياضيات معروف وأدموند هايلي عالم الفلك، وغيرهما كانوا على تواصل دائم مع أساتذة اللغة العربية بأكسفورد، وكان منهم علماء باللغة العربية، مثل إدوارد برنارد، الذي كان عالما بالفلك وأيضا في اللغة العربية، التي كانت من متطلبات تعلم الفلك في تلك الفترة.

في خزانة تالية تشير تركماني إلى قاموس العربية، كتبه أحد زملاء الجمعية وهو أدموند كاسيل، الذي قضى في تأليفه 18 عاما، وتقول إن كاسيل عندما أحس بدنو أجله طلب من أن تُكتب جملة عربية على شاهد قبره في قرية هايام غوبين في بيدفوردشاير ما زالت موجودة حتى الآن، وهي موجودة وتعتبر أقدم نقش عربي موجود في بريطانيا.

في مكان آخر نجد خزانة تركز على بحث لعالم الأرصاد إدوارد برنارد، ترجم فيه أبحاثا أصلها عربي وإسلامي.. «برنارد استخدم أربعين رصدا عربيا في بحثه الذي نشر في الدورية العلمية للجمعية، وأرسل هذه الرسالة إلى جون فلامستيد (استرونومر رويال) الذي بنى مرصد غرينتش. وكمثال لأحد الكتب التي استخدمها برنارد هناك كتاب الفرغاني، الذي توجد ترجمته هنا (ترجع لعام 1669)، والملاحظ هنا اسم المترجم الذي كتب بالعربية (الشيخ الفاضل يعقوب غوليوس)، وهو تعريب لاسم المترجم جاكوب غوليوس، المستعرب الهولندي».

ومن بين علماء الفلك الآخرين الذين ترجموا الكتب من العربية أدموند هالي، وهو أحد مؤسسي الجمعية الملكية، اهتم بالأرصاد العربية والرياضيات العربية والكتب التي ترجمها العرب من اللاتينية، وقام هايلي بترجمة بعضها، بعد أن تعلم العربية وهو في الخمسين من العمر. واستخدم هالي أيضا الأرصاد التي ترجمها ليحل مشكلات قابلته بعلم الفلك، مثل مشكلة سؤال حول تسارع القمر بدورانه أم لا، وحتى يبحث هذا الموضوع قام بقراءة أبحاث البتاني، ثم قام بنشر بحث كامل عنه، وامتدحه بأنه كان أول عالم ينقد بطليموس.

العالم البولندي يوهانس هافيليوس، وهو أول زميل أجنبي في الجمعية أظهر اهتماما مبكرا بالعلوم العربية، ومن خلال المعروضات نتعرف إلى قصة هذا العالم الفلكي الذي أرسل إلى الجمعية الملكية يطلب منهم ترجمة كتاب العالم الإسلامي، ألغ بيك، حاكم سمرقند، في القرن الخامس عشر، الذي يرصد فيه النجوم بدقة كبيرة معتمدا على نتائج من عمل العالم الصوفي. وبالفعل، قامت الجمعية بتلبية طلبه وترجمة الكتاب المعروض في المعرض، الذي يحمل الجداول باللغات الثلاث؛ العربية والفارسية واللاتينية، «اعتمد هافيليوس على هذه الترجمة في إنتاج أطلس نجوم جديد تحمل مقدمته لوحة تصور هافيليوس وهو يقدم كتابه، ومن حوله اصطف أشهر العلماء في مجال الفلك، وكان من بينهم ألغ بيك والبتاني».

كمّ المعلومات التي يحصل عليها الزائر من المعرض ضخم ومدهش أيضا، فهو كأنما يفتح نافذة لنا للاطلاع على جانب مهم من التاريخ، ويعكس حالة من حالات التواصل الثقافي والاهتمام بالعلم والبحث عنه في كل مكان، ولعل التواصل الحضاري بين العلماء واهتمامهم بمن سبقهم واحتفاءهم بهم يكون دليلا جديدا على أهمية الحوار بين الحضارات بدلا من تصادمها.