عمر النجدي لـ «الشرق الأوسط»: أنا فنان اللحظة التي تلامسني

له متحف خاص بفرنسا.. وجسد ثورة يناير في جدارية طولها 10 أمتار

ملحمة ثورة 25 يناير جسدها النجدي في جدارية طولها 10 أمتار
TT

حفر عمر النجدي بأظافره مكانا يقف فيه بجوار فناني العالم الكبار، وبمذهبه الخاص استطاع أن يعيد الحيوية والجمال إلى الكثير من مفردات التراث، يعتز بتأثره بالفن الإسلامي، ويرى أن ما يجري في الساحة العالمية الفنية ما هو إلا اغتراف من منهل هذا الفن لأنه مستمد من طبيعة الخلق والتكوين. درس النجدي في الكثير من الجامعات الأوروبية ونهل من فنون العالم. وله متحف بفرنسا بالقرب من باريس أقامه له بعض عشاق فنه، كما صدر حول تجربته التشكيلية عدد من الكتب في مصر والخارج.

وعلى الرغم من اعتزازه بفضائه التشكيلي وتواضعه الذي لا يخلو من نرجسية الفنان، فإن له مواهب أخرى، في التأليف الموسيقي وتلحين الأغاني والإخراج التلفزيوني، يرى أنها تتعايش كلها بحميمية تحت مظلة اللوحة، مثلما تتعايش الخامات المتنوعة التي يستخدمها كالألوان والرمل والحديد والفخار والنحاس.

في مرسمه بالقرب من منطقة الأهرامات الأثرية حاورت «الشرق الأوسط» عمر النجدي، حول مشواره الفني، وأهم المحطات التي تأثر بها، وجدارية الثورة أحدث أعماله التي جسد فيها ملحمة الشعب المصري في ثورة «25 يناير»، وغيرها من قضايا الفن.. وهنا نص الحوار..

* في كثير من أعمالك شغف بالتكعيبية.. هل هذا صحيح؟

- هي تكعيبية خاصة بي، وليست تكعيبية براك ولا بيكاسو، وكله يرجع للثقافة الشرقية واهتمامي بالفنون الإسلامية، أنا درست الدراسات الأكاديمية، وأنهيت «فنون جميلة قسم حر» بعد دراسة 5 سنوات وحصلت على جائزة مرسم الأقصر الأولى، ثم أنهيت الفنون التطبيقية، وبأكاديمية روفنا درست الموزاييك، وأكاديمية فيينا درست الفن الحائطي، درست في لندن أيضا وروسيا، وفي هولندا درست السلك سكرين والحفر. هذا كله كان تحضيرا لشخصيتي الفنية. وسألت نفسي أين أنا من فناني العالم، المفروض أن أجد مكانا أضع فيه قدمي بجوار هؤلاء الناس وأن يكون لي طعم خاص بي، وجدت طريق الخط الواحد المستمر من الأزل إلى الأبد، أعمل الموضوع كاملا من دون أن يخرج القلم من التوال، أحضر ورقة وأستمر في رسم البورتريه، أرسم حصانا أو ما أريده من شكل، أبدأ من نقطة وأنتهي في نقطة، من الأزل إلى الأبد، مثل الإنسان يبدأ من نقطة ويسير في الحياة وينتهي في نقطة، وابتكرت شيئا آخر وهو العمل بالأصابع الخمس.

* تقصد البعد الخامس الخاص بك؟

- نعم، ربنا خلق الإنسان بخمس أصابع، لماذا لم يخلقه بست أو سبع؟ الألوان الخمسة الأساسية، الأحمر الكريميزون والأحمر الفيرمليون، والأزرق البروسي والأزرق والأصفر وهو الضوء والشمس، أشتغل بالأصابع الخمس والألوان الخمسة، ولما أضم الأصابع لبعضها وأرسم يتكون البعد الخامس، تشعرين أنه مجسم، خمس أصابع وخمسة فراغات، تلك عشرة كاملة، وهذا ما يخلق التجسيم.

* نعرف أنك أول فنان في العالم استخدم الرمال في لوحاته، لكن أحدهم يقول إنك الثاني بعد سمير رافع، ما رأيك في هذا الكلام؟

- أنا أول من استخدم الرمال، وهذه حقيقة، سمير رافع سافر إلى الخارج من زمان ونحن صغار ولم يرَ أحد أعماله. أنا أشتغل بعجينة لون، وملامس خشنة، وأخرى ناعمة، وهذا يرجع إلى نشأتي بالريف المصري، ونشأة أخرى شعبية عندما نزحنا إلى القاهرة حيث الضجيج والزحام، وهذه هي شخصيتي: النواحي الخشنة تعطيني الإحساس بالبيئة الشعبية، والناعمة بالبيئة الريفية الهادئة.

* لماذا دخلت كلية فنون تطبيقية بعد فنون جميلة؟

- حصلت على أكبر جائزة في فنون جميلة وهي مرسم الأقصر وأنا آخر تلامذة العظيم أحمد صبري، كنا نفكر أنا وبعض زملائي أن نكرر تجربة راغب عياد ويوسف كامل في عملية تبادل السفر والإنفاق؛ حيث ينفق من لا يسافر على زميله ويحدث تبادل بعد ذلك، وكنت أفكر أن أسافر إلى إيطاليا، فقال لي أحمد صبري: «أريدك أن تذهب إلى سعيد الصدر وتتعلم الخزف». وعندما دخلت «فنون تطبيقية» أغرتني نوعيات الفنون المختلفة، والحمد لله حصلت في تلك الفترة على 16 جائزة أولى في نوعيات مختلفة.

* ألهذا تغامر مع كل الخامات؟

- اشتغلت بكل الخامات، وما شجعني لهذه المغامرات التكنيكية أني خريج فنون تطبيقية وكان بها وقتها 13 قسما: حديد، معادن، نسيج، طباعة، زخرفة وديكور.. وعندما دخلت الكلية كنت أغامر مع كل الخامات وأتعامل مع التقنيات المتنوعة الخارجة من ذاتي وليس لها مثيل مع زملائي الفنانين.

* أي الخامات أقرب إليك؟

- هذا سؤال صعب، أنا فنان اللحظة، أحيانا أحب أن أمسك «الفورم» فأصبح نحاتا وأنسى اللون، وأخرى أشعر باللون فأكون مصورا، أنا أتحول حسب اللحظة التي تلامسني فأبدأ العمل. أنا أكتب شعرا وأرسم وأنحت تمثالا في الوقت نفسه.

* أنت عاشق للفن الإسلامي وتجد به كثيرا من الفلسفة، وقلت إن بيكاسو وفازاريلي تأثرا بهذا الفن أيضا.. كيف انعكس هذا على أعمالك؟

- قرأت مقالا مؤخرا في جريدة «الأهرام» أزعجني بشدة، فهو لا يقدر الفن الإسلامي ووصل الأمر إلى حد الاستهانة. إن ما يجري في الساحة العالمية الفنية ما هو إلا اغتراف من منهل الفن الإسلامي بعد أن نشر المسلمون ثقافتهم في ربوع الدنيا، وكان لهذه الثقافة أثر بالغ العمق في ملامح العصور الوسيطة والحديثة. الفن الإسلامي صياغة قديمة قدم الزمن مع أنه أحدث الفنون، وهو حديث حداثة اليوم لأنه مستمد من طبيعة الخلق والتكوين، كما أن له جذورا وهو ليس مؤثرا فقط في فازاريلي وموندريان وماتيس، لا بل هو مؤثر في نهضة الحضارة الحديثة، الفن الإسلامي له باع في تخليق الشخصية الحديثة حتى لو بطريق غير مباشر. فهو صياغة قديمة وكونية لأنه فن ملتزم، قائم على أسس من الثوابت الإلهية والمتغيرات الإنسانية والكونية التي لا تتناقض معه نصا وروحا.

ثم قام النجدي وهو يتوكأ على عصاه، وتناول كتابا من مكتبته، كأنه يحفظ ترتيب صفحاته واستأنف كلامه: بعض الغرب يفهم الحضارة الإسلامية أكثر منا، وهذا مثال، فقد أنصف جون بادو الثقافة الإسلامية وأخذ يقرأ: «إن الماضي العربي حي يرزق صارخ الوجود، وفي وجوده هذا دروس يجدر بالعصر الحديث أن يتعلمها، وثروات يحسن أن ينتفع بها، وإن هذا الماضي يعبر عن ينبوع يتفجر عن نهضة».

واستأنف النجدي حديثه قائلا: حكاية الخط الواحد من الأزل إلى الأبد التي فكرت بها موجودة في الطبق النجمي؛ فالخط مستمر من السقف حتى الأرض، الفن الإسلامي عظيم جدا، لكننا نجري وراء القشور.

* استخدمت الخط العربي في لوحاتك مثل صلاح طاهر وحامد عبد الله.. برأيك هل تشكل الحروفية كينونة خاصة للفن العربي؟

- هذا هو الفن الحقيقي الذي لا يقدر على تقليده أحد من «الخواجات»، عندما رسم الفنان «بول كلي» الحرف العربي جاء على قدر استطاعته، الحرف العربي فن خالص للعرب، فنحن نكتبه وهو مدرسة كبيرة جدا، ولا يستطيع غربي كتابته إلا لو تعلم الكتابة العربية، فالحرف العربي له انفرادية خاصة بين كل واحد منا، انفرادية لن تتكرر حتى تقوم الساعة، حتى بين الشخص ونفسه، فأنا لا أكتب الحرف نفسه مرتين، لكني لست خطاطا، أنا أكتب الحرف بطريقتي الفنية.

* الصوفية واضحة جدا في أعمالك حتى في جدارية ثورة «25 يناير»، ماذا تعني لك؟

- أنا وصلت إلى درجة خاصة بي أحاول تفسير مفاهيم ما درسته من فنون شاملة إلى الفن الإسلامي الذي أحببت أن أدخل فيه بعمق فتعلمت الكثير، وما زلت أتعلم. في جدارية ثورة «25 يناير» رسمت المارد المكتوب بكلمة محمد، لقد استيقظ المارد ووقف على ساقيه، ساق الحقيقة وساق الواقع، أنا لم أرسم فوتوغرافية عن الثورة، إنما رموز حية من واقعية هذا المشهد الرهيب.

* هل هذا لأنك فنان انفعالي؟

- مضبوط، أنا فنان اللحظة، هذا فني ومذهبي، وأنا مقتنع بهذه الرؤى، أنا أرسم لأني انفعلت باللحظة فأصبحت ثائرا، ولو شاهدت نخلة بجوار حقل أنفعل باللحظة.

* بعض الفنانين يكبتون مثل هذه اللحظات كي تختمر، فهل ستضيع هذه الانفعالات؟

- لا لن تضيع لأنها ستنطبع وستأتي في حينها، ستنتقل من الوعي إلى اللاوعي، وتوجد مع المخزون الموجود عندك بعد هذه اللحظة، فيتكون هناك جزء واع وجزء لا واعي، وهو الأهم، أنا رسمت جدارية الثورة بطول 10 أمتار في نحو شهرين، بدأتها بانفعال أخذ وقته، وعندما كنت أذهب إليها وأنظر أسترجع أول لحظة التي تكون مثل الختم، لكنها تعود بأشياء أخرى لم أكن أراها في المرة الأولى، هذا هو اللاوعي.

* شخوصك في هذه الجدارية الجديدة شعبية، هل لأن الثورة شعبية أم لتأثرك القديم؟ ومتى ستقيم معرضك المقبل؟

- هي ثورة شعب، وقد تناولت فيها ثلاثة عناصر هي الفقر والمرض والجهل، تجدين مار جرجس يضرب التنين ويركب الحصان، والحصان هنا غير حصان معركة الجمل، وأشار بيده إلى عناصر اللوحة. وسوف أقيم معرضي المقبل في ذكرى الثورة يوم 25 يناير (كانون الثاني) المقبل.

* كيف ترى الوضع بعد الثورة؟ والربيع العربي هل ترى أنه يشكل صحوة حقيقية داخل إطار اللوحة والواقع معا؟

- أنا من المتفائلين جدا، فهناك دماء جديدة وشباب، لكن طبيعي عندما يأتي الزلزال يكون له توابع، هذا طبيعي، نحن في توابع زلزال الثورة. بلا شك، أنا رسمت جدارية الثورة بروح فرحة، غير لوحة العشاء الأخير التي رسمتها وكانت تتكلم عن القدس وجاءت بها الألوان كئيبة.

* بالمناسبة، أين كنت أثناء الثورة؟

- لم أنزل بسبب ركبتيَّ اللتين تؤلمانني بشدة، لكني مع الشباب والثوار قلبا وقالبا، كنت أعيش وسطهم على الرغم من أني لم أنزل، انفعلت حتى إنني صممت عملا ميدانيا بعرض 4 أمتار ليوضع في قلب ميدان التحرير، ويرى حتى من الطائرة.

* ماذا استفدت من تأثرك القوي بفان غوخ وغوغان وسيزان؟

- أعتبرهم أساتذتي الحقيقيين، غوغان في اللون، فان غوخ في الانفعالية، وسيزان في التكوين. هناك كثيرون لهم فضل عليَّ مثل الفنان العظيم أحمد صبري، تعلمت كيف أنجح وأضع نفسي بين الفنانين العظام في العالم، وهذا صعب جدا ولا بد من مجهود شاق للوصول لذلك.

* تعدد مواهبك، ألا يصبك أحيانا بالتشتت؟

- على العكس أنا أحب الموسيقى جدا وأحب التلحين والتصوير والنحت، لا يوجد انفصال، فأنا شخصية واحدة، بيكاسو قالوا له أن يعمل معرضا خلال شهر، فعل كل ما يشعر به ووضعها في أعمال بها سريالية وتكعيبية وأعمال مختلفة في الشكل واللون والأسلوب لكن الروح واحدة.

* لك لوحة استخدمت فيها الأكوريل الأسود القوي الصريح، ما هذه الجرأة؟

- الانفعالية التي كنت بها تحتم عليَّ استخدام الأسود ولا يهمني أي شيء، الحالة النفسية التي أنا بها تحتم عليَّ استخدام ما أشعر به فورا.

* متحفك بفرنسا، ما حكايته؟

- متحف فرنسا وراءه واحدة من عشاق الفن التشكيلي، وكانت سفيرة السوق الأوروبية في مصر، وفي فرنسا لي أعمال كثيرة جدا. وهناك أحد الفرنسيين الكبار له قصر بداخله متحف يضم أعمالا كثيرة لفنانين، ولي جناح داخله، وذلك خارج باريس بنحو نصف ساعة بجوار قرية كلود مونيه، وأنا عرضت أيضا مع كلود مونيه وبيسارو وما زلت محتفظا بالأفيش والكتالوج وكان ذلك في مدينة جيفارنيه.