«فن المهجر».. معرض في باريس لعشرة فنانين عرب

مع ظاهرة وجود كبار رسامينا خارج أوطانهم

لوحة السوداني محمد عمر خليل ومن أعمال شفيق عبود أقدم الفنانين المهاجرين ولوحة السوري يوسف عبدلكي والجزائري بن بيلا ومن أعمال الفلسطيني كمال بلاطة ولوحة العراقي ضياء العزاوي وقصيدة «أنشودة المطر» كما رسمتها إيتيل عدنان
TT

بعد «أدب المهجر» الذي كان من سمات النصف الأول من القرن الماضي، هل يكون «فن المهجر» مصطلحا جديدا لتوصيف إقامة طائفة واسعة من كبار التشكيليين العرب خارج أوطانهم، منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم؟

تأتي الملاحظة بمناسبة معرض «فن المهجر» المقام حاليا، وحتى 28 من الشهر المقبل، في باريس، لتقديم نماذج مختارة من أعمال 10 فنانين عربا يقيمون في الغرب. أما المكان فهو فضاء جديد للعرض الفني يقع في الدائرة الرابعة عشرة من العاصمة ويحل اسم «Espace Claude Lemand». ولعل صاحب الصالة أراد أن تأتي هذه اللوحات والمنحوتات والدفاتر الفنية مترافقة مع معرض بالاسم نفسه أُقيم في الكويت.

يشاهد زائر المعرض لوحة بعنوان «موسم» للفنان اللبناني شفيق عبود تعود إلى عام 1959. وهي اللوحة التي كان عبود قد اشترك بها في أول بيينال للفن التشكيلي يقام في باريس. لقد أراد أندريه مالرو، وزير الثقافة الشهير يومذاك، أن يكون للعاصمة الفرنسية بيينالها على غرار بيينال البندقية في إيطاليا. وكان عبود قد ترك لبنان في عام 1947 وأقام في باريس حتى رحيله عن الدنيا في عام 2004، وقد كان الفنان العربي الوحيد الذي دعي للمشاركة في بيينال باريس. ومما يذكر عنه أنه كان واصل زيارة لبنان كل عام وإلقاء محاضرات على طلبة كلية الفنون وإقامة معرض هناك، حتى قيام الحرب.

يضم المعرض، أيضا، نسخة من «كتاب المدن» الصادر عن اليونيسكو بنسخ محدودة ويتضمن نصوصا للشاعر أدونيس عن مدن عربية، ولوحات من الحفر أنجزها، بمضاهاة النصوص، الفنان السوري زياد دلول. وإلى جانب هذا الكتاب الفريد هناك دفتران من الدفاتر اليابانية لإيتيل عدنان (ولدت عام 1925)، الفنانة الوحيدة بين فناني المعرض والأكبر سنا. وهي أيضا من قدامى المهاجرين وتعيش ما بين فرنسا والولايات المتحدة كما تتردد كثيرا على لبنان، وطنها الأم. ويحمل الدفتر الأول ذو الصفحات المتصلة التي تمتد أفقيا عنوان «ذكر» ويتكرر فيه لفظ الجلالة مع تلاوين مختلفة، بينما يتضمن الثاني قصيدة «أنشودة المطر» للشاعر العراقي بدر شاكر السياب. ومن المعروف أن إيتيل عدنان هي، أيضا، شاعرة باللغة الإنجليزية وقد تعلمت اللغة العربية على كبر، وراحت تكتب بالحبر الصيني، اعتبارا من عام 1968، بشكل مبسط يشبه خطوط الأطفال نصوصا لشعراء عرب ثم تشتغل فوقها بألوان مائية.

وهناك لوحة للفنان السوداني محمد عمر خليل المولود عام 1936 في بوري وخريج مدرسة الفنون في الخرطوم، بعنوان «أجزاء»، أنجزها عام 2003 بأسلوب الرسم الزيتي والكولاج على القماش واستخدم فيها صورة لملكة فرعونية سوداء موجودة في متحف «متروبوليتان» في نيويورك، حيث يقيم منذ عقود. وعلى جدار قريب من لوحة خليل يطالع الزائر لوحة للفنان أسادور، المولود عام 1943 في لبنان والمقيم في باريس منذ 1963. واللوحة تمثل أشخاصا منهمكين في أعمال شتى، رسمها عام 2006 وفق المدرسة التركيبية المستمدة من مدرسة «البوهاوس» الألمانية (تأسست عام 1919) مع تأثيرات واضحة بالسوريالية الفرنسية. إن الفنان الأرمني المهاجر بشكل مضاعف يحاول، في رسومه، أن يضع شيئا من الترتيب في الفوضى العارمة لهذا العالم، كما يراه.

في باريس، أيضا، أقام يوسف عبدلكي، التشكيلي ورسام الكاريكاتير السوري الذي غادر وطنه في فترة مبكرة ليعود إليها قبل سنتين، على أمل الاستقرار في منطقة لا تعرف الاستقرار. إنه العائد الوحيد بين فناني معرض «فن المهجر». وإحدى لوحتيه المعروضتين هنا من نتاج سنوات النفي وتعود لعام 1993، منفذة بالكولاج وألوان الباستيل واسمها «أشخاص». وفيها يرى الزائر 3 شخصيات: ضابط ومعاون وامرأة. ولمن تابع المعارض الأخيرة التي أقامها عبدلكي في باريس يلاحظ أن أسلوبه الفني قد مر بتحولات في اتجاه قطع الحبل السري مع خطوط الكاريكاتير، على الرغم من مداومة الفنان عليه في الصحافة العربية.

من القدس التي ولد فيها قبل 70 عاما تنقل الفنان كمال بلاطة، وأقام طويلا في واشنطن، ليستقر به المقام في جنوب فرنسا. والمعرض يقدم له 4 لوحات من الخط الكوفي بأسلوب الطباعة على الحرير. كما يشاهد الزائر لوحة لمحجوب بن بيلا، الفنان المولود في الجزائر عام 1949 والمقيم في فرنسا منذ 1966. إنها لوحة تعكس انتقال بن بيلا من الحروفية الصريحة إلى فضاء يزدحم بحرف مكرر آلاف المرات، وكأنها تدوينات لنوتات موسيقية تغمرها الألوان أكثر منها كتابة عربية. وهناك لوحة لفنان جزائري كبير آخر هو عبد الله بن عنتر، بعنوان «المصطفى» مؤلفة من 3 قطع متجاورة تتحرك فيها ريشة الرسام في ضربات كثيفة وعريضة. وعند التدقيق في لوحة الفنان الذي غادر موطنه عام 1953 تمكن مشاهدة شخص يرتدي الزي الشعبي الأبيض وهو يمضي صاعدا الدرب وعابرا تضاريس اللوحة الكبيرة الحجم من دون كلل.

فنان كبير آخر في هذا المعرض هو ضياء العزاوي، الذي ترك العراق عام 1976 وما زال يقيم في بريطانيا ويطوف المدن العربية، ويعرض أعماله فيها. ويحضر العزاوي في المعرض الباريسي من خلال عملين؛ منحوتة حروفية زرقاء اللون تعود إلى عام 1984، وقد تولى صاحب الصالة صبها في قالب من البرونز، ولوحة بعنوان «البصرة ساعة الغروب» عمرها أكثر من 20 عاما، ويبرز فيها الأسلوب المتميز للفنان من خلال الخلفية القاتمة والألوان الحارة.

تلفت الانتباه، أخيرا، مساحة تجمع 3 لوحات، في كل واحدة منها قدم فنان عربي تحية لمبدع عربي راحل. فهناك تحية مرسومة من شفيق عبود إلى الشاعر الفلسطيني، توفيق صائغ، وتحية من ضياء العزاوي إلى الشاعر اللبناني خليل حاوي، وتحية من محمد عمر خليل إلى الشاعر المصري صلاح عبد الصبور. وقد أُنجزت هذه اللوحات بمناسبة الأسبوع الثقافي العربي الذي نظمته دار «رياض الريس» للنشر في لندن عام 1988.

هل كان ضياء العزاوي، الفنان الذي عايش فترات الازدهار الفني في عراق الستينات وأوائل السبعينات، يتصور أنه سيدرج، يوما، تحت مسمى فناني المهجر؟ في حديث مع «الشرق الأوسط» بمناسبة مشاركته في هذا المعرض، أجاب العزاوي عن السؤال بالنفي. وأضاف أنه لا يميل، كعراقي، إلى استخدام هذه الكلمة، لأن حاله كحال الآلاف الذين غادروا العراق لأسباب سياسية أو لظروف أخرى بسبب سنوات الحصار. وهو يرى أن «المنفى» هو الأكثر تعبيرا من «المهجر». كما يرى أن تأثير المكان على الإبداع يعتمد على العلاقة التي يقيمها المرء معه، أي قدرته على التماهي معه وقبوله أو استخدامه كعنصر تحد لتطوير تجربته وتحمل تبعات هذا التحدي.

بالنسبة له، شكل المكان الجديد نافذة فنية وثقافية ذات امتداد واسع. ويقول: «هنا (يقصد لندن) تواجه كل المظاهر الفنية والثقافية من مختلف أصقاع العالم. وهي مظاهر تتنوع بين مكاشفة الماضي وانتصارات الحداثة. وقد قادتني هذه المزاوجة الإنسانية إلى تنوع معرفي هائل». ولا يعتقد العزاوي أن إقامة جمهرة من فناني العرب الكبار خارج أوطانها قد أسهمت في خلق تيار عربي الملامح في حركة الفن العالمية. إنه يعتبر أن الجهد والنجاحات فردية في أكثر من مجال، وفي غالب الأحوال تنتسب هذه النجاحات إلى المناخ الفني للبلدان التي يقيم الفنانون فيها.

أما عما نشهده حاليا من هجرة معاكسة للوحة العربية من الخارج إلى الداخل، بفضل المتاحف التشكيلية الجديدة في الخليج، فيرى العزاوي أن تأسيس المتاحف أو المجموعات ذات العلاقة بالفن العربي ظاهرة إيجابية على أكثر من صعيد، فقد أتاحت ولأول مرة وجود أعمال من بلدان مختلفة مما أتاح الفرصة للباحثين وجامعي اللوحات لمعرفة قيمة إنجازات هذا الفنان أو ذاك ومدى فعاليته على الصعيد العربي العام، لا المحلي. وإلى جانب ذلك أصبح من الممكن إغناء الأرشيف التاريخي للكثير من التجارب المحلية ذات الأهمية ضمن حدود هذا البلد أو ذاك.