حديقة الحيوان بالجيزة.. تئن تحت وطأة الإهمال

تاريخ من البهجة في ذاكرة المصريين

TT

من بين جنيهات طعامه وكسوة ولديه الثلاثة استقطع إبراهيم ما يضمن بهجة أولاده الثلاثة وزوجته ليوم واحد، على أبواب حديقة الحيوان بدروبها العتيقة بالجيزة، تداعت ذكرياته، التقط من فترة طفولته ابتسامة شغوفة بزئير الأسد القابع خلف أسوار القفص، وتذكر شهقات قديمة أطلقها في صباه وهو يناجي خطيبته بجوار كشك الشاي التاريخي، كبقية العاشقين، في نزهة رخيصة مفعمة بعبق الحب. استيقظ إبراهيم من نوبات ذكرياته على صوت محمود ابنه البكر، وهي يشد بنطاله ملحا برغبته في رؤية الزرافة، لم يجد الأب إزاء الشدة إلا سؤال أقرب حارس للباب فدله على طريق مختصر، سبقه إليه محمود وإخوته، بينما أطلق أبوه ضحكته المجلجلة، مختلطة بنداء الأم الصارخ «استنى يا مجنون هتّوه انت وإخواتك».

كانت الأم محقه في قلقها، فالتجول في 80 فدانا هي مجمل مساحة تلك القطعة المؤثرة من قلب القاهرة الكبرى أمر ليس سهلا، حتى ولو كانت محفوظة عن ظهر قلب لكل سكان القاهرة، الذين اعتادوا التسكع في مسالكها منذ 1891 وقت افتتاحها.

ظهرت فكرة إنشاء حديقة الحيوان بالجيزة مع فكرة أخرى هي الأهم في تاريخ مصر الحديث، وهي حفر قناة السويس، ففكر الخديو إسماعيل في إنشائها لتتزامن مع مناسبة افتتاح القناة، فاستقطع جزءا من حديقة قصره لتصبح حديقة حيوان، لكن الصدفة الطيبة ـ كما قال لي ذات مرة دكتور فتحي صالح رئيس مركز توثيق التراث الحضاري ـ أن الجزء الذي استقطعه كان يضم كوبريا حديديا صممه له خصيصا المهندس إيفل الذي بني برج إيفل الشهير بفرنسا وسمي على اسمه وأصبح من أهم معالم العاصمة باريس. وربما لذلك لم يتمكن الخديو إسماعيل من استكمال الحديقة في الوقت المناسب. وافتتحها بعد ذلك ابنه الخديو توفيق عام 1891. تضم الحديقة بين جنباتها مجموعة هائلة من النباتات النادرة المختارة من شتى أنحاء العالم، وتتميز أيضا بالأرضية المرصوفة بالزلط بشكل هندسي وزخرفي أنيق، إضافة إلى جداول مائية وتلال تسحر الأعين، وجبلاية القرود التي قدمت تصميمها كهدية حديقة حيوان Parc zoologique de Vincennes بباريس.

وتعد الحديقة إحدى أكبر وأعرق حديقة حيوان في الشرق الأوسط وأفريقيا، وكانت تسمى جوهرة التاج لحدائق الحيوان في أفريقيا، وفي عام 1906 بني فيها متحف يحوي مجموعات مختارة ونادرة للحيوانات المختلفة والزواحف والطيور من كل أنحاء العالم، وكان المتحف مقصد الدارسين والعلماء، كما تضم ما يعرف بالكشك الياباني والذي تم بناؤه بمناسبة زيارة ولي عهد اليابان لمصر عام 1924 وذلك في عهد الملك فؤاد، ويضم صورا نادرة وقديمة للحديقة.

رحلة تاريخية طويلة اجتازتها حديقة الحيوان، نجحت عبرها في حجز مكانة خاصة داخل ذاكرة المصريين، فلا يمكن الاحتفال بيوم شم النسيم دون أن يطرق أبوابها الملايين، كما اخترقت جداولها، ومناظرها الجميلة، مشاهد السينما، ومنها فيلم «إسماعيل ياسين في جنينة الحيوان». وفي وقت من الأوقات كانت الحديقة الثالثة في العالم من حيث الأهمية والعراقة، لكن بعد 118 عاما تراجعت مكانتها، وبهت بريقها، بعد امتداد يد الإهمال لأهم مقتنياتها، فبمجرد دخول الزائر من بابها الرئيسي، سيفاجأ بعمل نحتي بارز محفور في الحائط، أو بمعني أدق «ريليف» للفنان الكبير منصور فرج، لم تقتنع يد الإهمال بجمال العمل فامتدت لتشويهه بتلوينه، ورغم جرم ذلك إلا أنه تم تلوينه بشكل رديء جدا ليزداد القبح قبحا. كما أظهرت حوادث عديدة خلال العامين السابقين، مدى تجاهل قيمتها وسوء أحوالها، فمنذ حوالي عامين وقعت حادثة أغرب من الخيال، فوجئ العاملون بناقة مغربية مذبوحة واختفاء أجزاء من جسدها، ثم اختفت بعد فترة ابنتها، وتم اكتشاف أن الجاني جزار كان يمر بضائقة مالية، فما كان منه إلا التسلل ليلا وذبح الناقة، ثم القفز من أعلى السور، ثم استقل تاكسيا ومنح السائق قطعة من اللحم، فليس معه نقود! وفي دراسة مشتركة للدكتور ماهر استينو، والدكتورة ليلى المصري، الأستاذين بكلية التخطيط العمراني جامعة القاهرة، بعنوان «حديقة الحيوان تجميل أم تشويه»، تبين أن الحديقة غاب عنها مفهوم التطوير المواكب لما يحدث في العالم، كما افتقد المسؤولون عن إدارتها الشعور بمدى أهميتها كحديقة نباتية وبيئية ذات بعد تراثي لا يقدر بثمن.

ومن بين مفردات القبح الحالية التي رصدتها الدراسة، أعمدة الإضاءة القبيحة، برجولات معدنية ضخمة سيئة المنظر، تدمير مسارات المشي القديمة الأثرية المكونة من زلط ملون بأشكال هندسية رائعة، ووضع مسارات ملاصقة لها من بلاط متدن ذي ألوان فاقعة، وإضافة منشآت ومبان جديدة عشوائية وذات طرز فرعوني ونوبي، لا يتناسب مع أبنيتها، والتعامل مع مفهوم عروض الحيوانات كأنها حيوانات في سيرك وليس حديقة حيوان، مثال ذلك وضع أرجوحة معدنية في جبلاية القرود الأثرية، ولم يقتصر التشويه على ذلك بل تم قطع كثير من الأشجار النادرة واستبدالها بأشجار ليس لها قيمة جمالية مثل الفيكس.

وخرجت الدراسة بتوصيات عديدة لإنقاذ الحديقة وإعادة رونقها، منها تشكيل لجنة من الأوصياء تؤمن الحفاظ على الحديقة وتبحث في سبل توفير التبرعات ومصادر التمويل وتضع سياسة واضحة لتطوير الحديقة مستقبلا، وإعداد مسودة أولية للتشريعات التخطيطية تضمن الحفاظ على المناطق العامة المفتوحة، حيث إن هناك خلطا في المفاهيم ما بين المناطق العامة والمناطق الحكومية، فالمناطق العامة المفتوحة ليست ملكا ولا حكرا للهيئات والوزارات والمحافظات، ولكنها ملك للعامة ولا يحق لهذه الهيئات والوزارات الحكومية التصرف فيها إلا في حدود القوانين والتشريعات التخطيطية الموضوعة لهذه المناطق، وأن يكون التصميم والتخطيط على مستوى فني تقني عالي الجودة، والفراغات العامة المفتوحة تشمل في مجملها المناطق الطبيعية مثل المتنزهات وشواطئ النيل وكذلك الفراغات المفتوحة العمرانية مثل الساحات والميادين والشوارع. وبسؤال الدكتور سامي طه عضو مجلس النقابة العامة للأطباء البيطريين عن الأسباب التي أدت لتدهور وضع الحديقة قال «الحال تدهور منذ عام 1996 بعد تبعيتها المباشرة لمكتب وزير الزراعة، واستمر هذا الحال 8 سنوات تم خلالها تشويه الحديقة وتدمير متحف الحيوان النادر عالميا».

وأضاف «ما حدث في الحديقة من إهمال وتشويه أعتقد أنه متعمد، لتباع أرضها لرجال الأعمال، فليس معقولا أن تخفض ميزانيتها من 70 مليون جنيه إلى 15 مليونا فقط، لذا فإن الحيوانات لا تجد علاجا أو تغذية ولا يتم شراء حيوانات جديدة، أو عمليات تبادل بيننا وبين حدائق حيوانات أخرى، ولذلك خرجت من التصنيف العالمي».

وقال طه إن السفارة الإسرائيلية بالقاهرة سبق وطلبت من محافظ الجيزة السابق فتحي سعد نقل حديقة الحيوان، إلى مكان آخر أكثر من مرة، بدعوى رائحة الحيوانات الكريهة، ثم بسبب خشية موظفيها من الإصابة بإنفلونزا الطيور لكنه تجاهل الطلب.

ولفت الدكتور سامي البساطي، رئيس الإدارة المركزية لحديقة الحيوان السابق، رئيس الجمعية المصرية للحفاظ على الثروات الطبيعية والجمعية المصرية لعلوم الحيوان إلى أن الجمعيتين اللتين يرأسهما تقدمتا بخطة للنهوض بالحديقة وبأقل التكاليف وتم رفعها لوزير الزراعة المصري وقتها، أحمد الليثي، لكن مع تغير الوزير بقي الحال كما هو.

وعن تأثير ضم بعض مقتنيات الحديقة لهيئة الآثار أخيرا على حمايتها من البيع والإهمال، قال البساطي «ما تم ضمه كأثر هو الكشك الياباني والجبلاية فقط، وتم تجاهل جميع المباني الأخرى بهدف حصر المساحة في حوالي فدان ونصف فدان فقط، ويجب إدراج كل الحديقة كأثر، فمتحفها لا يوجد مثيل له في الشرق الأوسط وهو متوقف منذ 12 سنة، وكان يأتيه الدارسون من أنحاء العالم، وبه ثلاث مجاميع للحيوانات، وعندما بناه الإنجليز عام 1904 جاء تصميمه بحيث يكون ملائما لظروف الحيوانات المحنطة من تهوية وخلافه، لكن أحد مسؤوليه وضع الحيوانات بشكل خاطئ لتكون عرضة للتحلل، وكي لا يصبح هناك متحف من الأساس، وأنا أعتبر أن نقل حديقة الحيوانات من مكانها، مثله مثل نقل الهرم، يجب أن يكون مستحيلا».

ويقول عزب مصطفى النائب بالبرلمان المصري عن دائرة الجيزة إن الحديقة حققت أرباحا قدرها 12 مليون جنيه العام الماضي، ولا يجب أن ننسى أن هناك بعدا اجتماعيا تؤثر فيه الحديقة، ومن الخطأ حساب كل شيء بمعيار المكسب والخسارة، ودعا إلى رد فعل شعبي قوي لإنهاض الحديقة من كبوتها.