المتحف الوطني العراقي غير مؤهل لاستقبال الزوار بعد عقد على إغلاقه

مسؤولون وآثاريون في الذكرى العاشرة لنهبه: 42 ألف أثر سرقت استعيد منها 15 ألف قطعة

تأسس المتحف عام 1923 في منطقة الصالحية من جانب الكرخ ببغداد («الشرق الأوسط»)
TT

كشفت باحثة وآثارية عراقية عن معلومات جديدة تخص عمليات سرقة المتحف العراقي التي وصفت بـ«جريمة العصر». وبمناسبة مرور عشر سنوات، إثر الغزو الأميركي للعراق عام 2003، على ما تعرض له المتحف خلال حالة الفوضى، قالت إن دلائل موثقة تكشف تعمد إهمال دول الاحتلال لعمليات نهب وتدمير المتحف العراقي، وإن أخطاء قاتلة رافقت عملية تحصينه من السرقات، كما أن هناك جهات منظمة كانت وراء سرقته، وأن اللجنة التحقيقية العراقية المكلفة بالكشف عن جريمة السرقة منذ عام 2004 لم تفصح لحد الآن عن نتائج التحقيق لأسباب مجهولة.

الدكتورة لمياء الكيلاني المتخصصة في الأختام الأسطوانية للعهد البابلي القديم، وأرشفة الوثائق المتعلقة بالمتحف العراقي منذ نشوئه، وأول امرأة عراقية تشارك في التنقيبات الآثارية عام 1962 أكدت في حديثها لـ«الشرق الأوسط» أن «مأساة المتحف العراقي بدأت قبل عام 2003؛ لأن السرقة حصلت أول الأمر في عام 1991 بعد حرب الخليج، وتعرضت تسعة متاحف من أصل 13 متحفا في عموم العراق للسرقة، من بينها متاحف آشور وواسط وعكركوف وبابل، بعمليات نهب منظمة».

وأشارت إلى أن محاولات متواضعة قامت بها إدارة المتحف العراقي ودائرة الآثار والتراث لأجل حمايتها، بنقلها إلى منطقة الحضر (غرب العراق)، فيما خزنت المخطوطات في محافظة كركوك، أما الرقم الطينية ذات اللغة المسمارية، فقد خزنت في دهوك، ولكن متحف كركوك تعرض للنهب بالكامل، ورميت محتوياته في الطريق، وأعيد فقط قسم من المخطوطات إلى المتحف العراقي ببغداد، وتعرض القسم الآخر للضياع.

الرقم الطينية عثر عليها بصعوبة في سرداب المتحف العراقي الذي تحول إلى مقر للقيادة العسكرية في عام 1991. والخبير الآثاري دوني جورج هو من عثر عليها أولا، وأتذكر أن الآثار نقلت مرة أخرى إلى منطقة الحضر ليجري وضع الآثار الكويتية المسروقة بدلها! وتأسس المتحف العراقي في عام 1923 في منطقة الصالحية من جانب الكرخ ببغداد، بتصميم يشابه بناء المتاحف العالمية، وهو يضم 18 قاعة لحقب تاريخية كثيرة، مثل السومرية والآشورية والبابلية، إضافة إلى الفنون الإسلامية، وآثار عصور ما قبل التاريخ، ويحتوي على ما يقارب 170 ألف قطعة أثرية تحكي قصة العراق مع الحضارة.

وبشأن سرقة الآثار خلال الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003 تقول الكيلاني: «حصل خرق لأهم شرطين لحماية المتاحف العالمية، وأولها: أهمية أن تحمي الدولة الغازية آثار الدولة المحتلة، إضافة إلى ضرورة أن لا تستخدم الدولة المحتلة المواقع الآثارية لحماية نفسها، والذي حصل أن الحكومة الأميركية قامت بتهيئة لجان عدة للاستعداد لما بعد احتلال العراق، تشمل جوانب التعليم والصحة والزراعة والصناعة، ولكنها نسيت إدراج لجنة للآثار! وتعاملت مع الموضوع على أنه غير مهم تماما أمام احتلال بلد مثل العراق. وهذه هي أول دلائل (كذبة حماية الآثار) في البلاد؛ أي أن القوات الأميركية تعمدت تعريض المتحف العراقي للنهب، وكان هناك تقصير واضح من قبل وزارة الخارجية العراقية التي لم تعرف بمن تتصل كي تحمي آثار بلادها».

وبينت الكيلاني أن «أول ضربة تعرض لها المتحف كانت في واجهته الأولى، بضربة مدفع من جهة البوابة الآشورية التي وثقت بالصور، لكنها اختفت الآن بعد أن جرت عمليات تأهيل المتحف، وكنت أتمنى أن تبقى شاهدا حيا على استهداف المتاحف من قبل القوات الغازية، وكان ذلك في يومي 7 و8 أبريل (نيسان) 2003، وفي يومي 9 و10 من الشهر نفسه تعرض المتحف للسرقة».

واستغربت الكيلاني عدم توقع العاملين في وزارات السياحة والآثار أو الخارجية أو الدفاع العراقية، سرقة المتحف، وبالتالي التحوط لذلك، حسبما ذكر في التحقيقات الأولية لحادثة سرقة المتحف، وأن كل ما ذكر عن المتحف يشمل الخشية من تعرضه للقصف.

وأوضحت أن «التحقيقات الأولية كشفت أن التحوطات الأمنية للمتحف العراقي لم تكن كافية، بل كانت مضحكة أيضا، وهناك أخطاء كبيرة وإهمال في مسألة تحصين أبوابه من السرقة، إذ لم يتم التعامل مع الأبواب الحصينة كما هو الحال في معظم متاحف العالم بحجة عدم وجود ميزانية كافية، وكذلك لم يقفل قسم من الأبواب المهمة في المتحف بحجة ارتباطها بمنظومة الكهرباء التي تغذي المتحف، وأحد الأبواب المؤدية من إدارة المتحف للقاعة الإسلامية في المتحف كان معطلا، وكذلك أبواب المخزن القديم، فيما كانت هناك حماية للآثار المعروضة فقط، وأهملت الآثار الموجودة في المخازن».

وكشفت الكيلاني عن أسرار غرفة مهمة في المتحف العراقي تعرضت للسرقة وهي تحمل الرقم 104، وهي بالأصل غرفة مؤقتة في المتحف، تقوم الإدارة أحيانا بخزن الآثار فيها مؤقتا ريثما يخصص لها قاعات مناسبة أو إيداعها الصيانة أو إدراج معلومات عنها، وقد نسي المعنيون في المتحف غلقها قبل الحرب وبقيت مفتوحة، وكان فيها «قيثارة أور» و«فتاة الوركاء»، وهما من أهم الآثار المتحفية. كما بقي لغز مفاتيح أبواب المتحف غامضا حتى الآن؛ لأن التحقيقات كشفت عن سرقة بعض نماذج المفاتيح؛ لأن بعض القاعات والخزائن وجدت مفتوحة بعد سرقة ما فيها من دون كسرها، يعني أن سارقها يحمل مفاتيحها الأصلية، وهناك مفاتيح عثر عليها بعد عمليات السرقة وكانت ملقاة على الأرض، ومفاتيح أخرى فقدت من لدن مالكيها أنفسهم بحسب شهاداتهم.

وعن حصيلة السرقات من الآثار قالت الكيلاني: «الحصيلة أثبتت تعرض 42 أثرا للسرقة من المتحف، عدا الآلاف من المخازن، وتمت استعادة 15 ألف أثر فقط، من بينها تمثال (انتمينا) الذي تعرض للكسر بعد أن جرى تهريبه لسوريا، وكذلك (أسد بابل) الذي وجد بباب معبد بمحافظة ديالي؛ لأن اللصوص لم يستطيعوا نقله فقاموا بقطع رأسه، وكذلك الحال مع (قيثارة أور) التي سرق منها ذراعاها المصنوعتان من الذهب الخالص، وكذلك الرأس، وأعيد تأهيلها من جديد.

أما (فتاة الوركاء) التي كانت في غرفة رقم 104 فقد وجدت فيما بعد مدفونة تحت نخلة في منطقة نائية. كما سرقت جميع قطع العاج الموجودة في المتحف، وهي قطع ليس لها مثيل في العالم كله، وسرق أيضا 5000 ختم أسطواني لم يعد منها إلا أقل من ألف ختم، يعود الفضل لعودة 800 ختم منها لمدير المعهد الثقافي الإيطالي باولو بتينوا الذي اشتراها من أحد الباعة في السوق الشعبية القريبة من المتحف. وقد نجت 10 آلاف مسكوكة في المتحف من السرقة لأن اللصوص أضاعوا مفاتيح الخزائن، كما اتضح من التحقيقات؛ لأن المفاتيح وجدت تحت أنقاض بعض الآثار بالقرب من المسكوكات. الغريب أن أكثر القطع التي أعيدت رجعت بعد فترة قصيرة من الحرب، في حين تلكأت عمليات الاستعادة بعدها».

وعزت الكيلاني أسباب سرقة المتحف، بحسب كتاب لخبير آثار فرنسي واسمه بكدانوس، قال إن سرقات المتحف حصلت بسبب شبكة إجرامية منظمة كانت موجودة بالقرب من المكان قبل الغزو الأميركي للعراق، والدليل على ذلك أن تجار الآثار جرى إعلامهم بالقطع التي سيحصلون عليها قبل موعد سرقتها أصلا. وهناك نوع آخر من اللصوص العشوائيين الذين لم يفرقوا بين القطع المهمة عن غيرها من المناضد والحواسيب الموجودة في المتحف. ولا يمكن إغفال إسهام مسؤولين في النظام السابق بعمليات تهريب الآثار، وبيعها في الخارج.

وخلال مداخلة له خلال الندوة، أكد المستشار الأقدم لوزارة السياحة والآثار العراقية بهاء المياح أن آخر إحصائية في موضوع استرداد الآثار من المتحف العراقي كانت بتاريخ 13 ديسمبر (كانون الأول) الماضي؛ إذ استرجع 4310 قطعة أثرية، وقطع أخرى لا تعود ملكيتها للمتحف، وهذه أكثر بـ30 مرة من نسبة الاسترداد في المتحف العراقي، وهذا يعني أن هناك جريمة منظمة للسرقة، وتم أخيرا ضبط 600 قطعة أثرية هربت على يد مهربين إيرانيين.

ووصف المياح سرقة المتحف بـ«جريمة العصر»، التي لم تأخذ استحقاقها من التحقيق حتى الآن، مؤكدا على أن الآثار العراقية لا تزال تعاني سرقة عدد كبير منها بغياب الرقابة عليها، وأن ما تم استرجاعه من الآثار المسروقة لا يشكل إلا أقل من ثلث ما قدر من سرقات.

وطالب المياح بأهمية تبادل المعلومات دوليا حول تفاصيل الآثار المهربة، وكيفية وصولها للجهات السارقة لمعرفة امتدادات العصابات المنظمة في العراق وبالتالي القبض عليهم، إضافة إلى تطبيق معاهدة اليونيسكو بشأن اعتبار نقل ممتلكات أثرية لدولة أجنبية عملا غير مشروع، وكذلك احترام التراث الثقافي للبلاد الموقعة على الاتفاقية، واتخاذ كل التدابير الخاصة بحظر واستيراد الممتلكات الثقافية في أراضيها.

وركز المياح على مشكلة استرداد الآثار دوليا، وذلك بسبب أن بعض الدول المتقدمة (من بينها دول الاتحاد الأوروبي) غير متعاونة، على حد وصفه.

وبشأن أهمية توكيل محامين لأجل تولي رفع دعاوى قضائية للمطالبة باستعادة الآثار العراقية وحظر تداولها وتجارتها، قال المياح: «نسعى لذلك، لكن الأمر يكلف أموالا كثيرة، ولكنه الحل الأنسب لنا عوضا عن توكيل محامين أجانب».

وحول أسباب عدم افتتاح المتحف العراقي أمام الجمهور والزوار، رغم مرور عشر سنوات على غلقه، ووعود تأهيله المستمرة، قال المياح: «نعترف بأن الوقت تأخر كثيرا، ولكن افتتاحه من دون اكتمال عمليات تأهيله وحمايته بطريقة محكمة من أي سرقة يعني مخاطرة كبيرة». وزاد: «المتحف لم يكن مصمما أصلا وفق أسس محكمة للمراقبة؛ من حيث نصب الكاميرات وإحكام قاعات العرض؛ إذ إن بعض القاعات لم يتم تأهيله حتى الآن بسبب قلة الأموال المخصصة، وما جرى تأهيله منها حتى الآن تم بمساعدات أجنبية».

بدوره أعرب وزير الثقافة العراقية السابق مفيد الجزائري ورئيس الجمعية العراقية لدعم الثقافة، عن استغرابه لإخفاء نتائج التحقيق في موضوع سرقة المتحف، التي تشكلت في عام 2004 والتي استمرت شهورا طويلة، ووصلت إلى استنتاجات وخلاصات مهمة في التحقيق بالتعاون مع جهات أجنبية.

وقال: «إن عشر سنوات على إغلاق المتحف مدة طويلة، ومن المضحك أننا لا نمتلك الأموال كي نعيد تأهيل كل القاعات أو حتى نحكم السيطرة عليها أمنيا».

يذكر أن الدكتورة لمياء الكيلاني هي من مواليد بغداد، حاصلة على البكالوريوس والماجستير والدكتوراه من جامعات كمبردج وأدنبرة ولندن، باشرت عملها في الآثار في مطلع ستينات القرن الماضي، وهي أول امرأة عراقية تشارك في التنقيبات الآثارية عام 1962، ونشرت الكثير من الأبحاث والمقالات في مجلات كثيرة، كما أسهمت في تأليف كتاب عن الأختام الأسطوانية في تل سليمة قرب سد حمرين، وألفت كتابا بعنوان «أول العرب» بالاشتراك مع سالم الألوسي، وقد غادرت العراق عام 1970، وعملت مستشارة في وزارة الثقافة بعد سقوط النظام عام 2003، ومستشارة في المتحف البريطاني في عام 2003.