سنوات مخرج متمرد بين الأرياف والقضايا الاجتماعية

رحيل السينمائي الكبير توفيق صالح

لقطة من «المتمردون» تجمع بين شكري سرحان وتوفيق الدقن
TT

بعد يوم على رحيل الناقد السينمائي المخضرم رفيق الصبان، رحل المخرج المشهور توفيق صالح صباح يوم الأحد في الثامن عشر من الشهر الجاري. الأول خدم النقد السينمائي بكل عاطفته، أما توفيق صالح فأحبها حتى خشيها. أقبل عليها ثم غاب عنها خوفا من أن لا يمنحها أفضل ما لديه. كان صادقا مع نفسه في أقسى الظروف، وغير مهادن، محققا مجموعة من الأفلام غير المتنازلة (باستثناء أخيرها) عما شكـله في وجدانه من أفكار. بدوره أحب السينما ولم يهادن، لكنه انسحب منها منذ مطلع الثمانينات.

هناك اختلاف مراجع بالنسبة لتوفيق صالح. بعضها يرجع تاريخ ميلاده إلى السابع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) 1926 والآخر يرجعه إلى عام 1927. في كلا الحالتين كان لا يزال في العشرية الثانية من عمره عندما نال شهادة جامعية (فرع الآداب) في جامعة الإسكندرية، مقررا بعدها مباشرة السفر إلى باريس لدراسة السينما في معهد إيديك (كما كان معروفا آنذاك قبل تغيير اسمه إلى «La Fémis».

* بدايات الغياب

* فيلمه الأول كان «درب المهابيل» سنة 1955، أي بعد خمس سنوات من عودته إلى مصر. دراما عن قصة كتبها للسينما نجيب محفوظ ووضع لها السيناريو لجانب توفيق صالح مع حوار لعبد الحميد جودة السحـار. باقي الأسماء المشتركة لا تقل قيمة عن تلك المذكورة، فمدير التصوير كان عبد العزيز فهمي، والتوليف لسعيد الشيخ. أما الحكاية فكانت من لـبنة اجتماعية حول مجذوب الحارة الذي يربح ألف جنيه في ورقة يانصيب فيتحلـق حوله كل من يحاول الاحتيال عليه لسرقة المال منه. وضع توفيق صالح أمام الكاميرا كلا من شكري سرحان وعبد الغني قمر وبرلنتي عبد الحميد ونادية السبع وحسن البارودي، وفي ثنايا كل ذلك أسس لمعالجة واقعية وداكنة أراد فيها نقل وجع اجتماعي لما يمكن أن يحصل بين كل هذه الشخصيات حين تلامس الفرصة أحلام كل منها بثراء مفاجئ.

واحد من معالم المخرج الراحل هو حضوره كحدث كلما صنع فيلما، وفي المقابل فترات غيابه الطويلة عندما كان ينأى بنفسه عن العمل لأسباب تداولتها الصحافة طويلا من دون أن تتفق عليها. أول فترات الغياب الطويلة هذه هي تلك التي امتدت ما بين تاريخ الفيلم الأول ذاك وفيلمه الثاني «صراع الأبطال» (1962). خلال هذه الفترة أخرج صالح عددا من الأفلام التسجيلية، من بينها «فن العرائس» (1957) و«نهضتنا الصناعية» (1959) و«نحو المجهول» (1960). بما أنها لم تعرض (ولا ندري حتى إذا ما كانت محفوظة) فإن أحدا لن يستطيع تقييمها وملاحظة ما إذا كانت ذات صلة فنيـة جوهرية بأسلوب المخرج الروائي أو أنها حيـز مختلف من السينما لم يتم الكشف عنه جيدا إلى اليوم.

«صراع الأبطال» أحد أفضل أعمال توفيق صالح قاطبة، حتى وإن كانت اضطرت للتحايل على الرقابة في ذلك الحين عبر وضع أحداثها في سنوات ما قبل ثورة 1952. الحقيقة أن العودة إلى الماضي كانت قصصيا، وحسب سيناريو شارك في كتابته عبد الحي أديب عن قصـة لعز الدين ذو الفقار، واقعية من حيث سردها حكاية الناس المغلوبة على أمرها التي يـقوم بعض المتسلـطين بتدمير حياتها إذا ما حاولت الرفض. عدد من المتمردين ينتهي إلى مستشفى الأمراض العقلية من دون أن يكون مجنونا، وهذا يتكشـف لطبيب (شكري سرحان) جاء بقناعات وخرج بأخرى عندما تبيـن له أن مرض الكوليرا المنتشر هو المسؤول عن الوباء المنتشر في البلدة.

رغم أهمية الصراع الطبقي الذي يعرضه «صراع الأبطال» فإن الناحية التي تشهد لهذا الفيلم بنظرة ثاقبة تمتد لما قبل وما بعد فترة أحداثه تتبلور عندما يستخرج الطبيب جثة لفحصها وتشخيص المرض. كل ما كان أنجزه من ثقة وتأييد بين جموع الناس انقلب إلى عداء شديد كون التقاليد لا تسمح حتى للعلم بأن يتدخـل لإنقاذ أرواح أو الكشف عن حقيقة.

* البعد الاجتماعي

* الفيلم التالي، بعد غياب أربع سنوات أخرى، كان «المتمردون» الذي كتب قصـته صلاح حافظ حول مصحـة في منطقة صحراوية نائية، حيث يكتشف الفوارق الاجتماعية بين المرضى الذي يملكون والمرضى الذين لا يملكون. «السيد البلطي» (1967) يدور حول شيوع خلافات بين شخصيات تتضارب توجـهاتها كل حيال القضية الاجتماعية المثارة: الجديد ضد القديم. أحد معلمي البحر يريد بيع مراكب الصيد الصغيرة لأنها لا تستطيع الإبحار بعيدا عن الساحل ما يجعل حمولتها محدودة. يقف في مواجهته عمال تلك المراكب؛ إذ يجدون أن البيع يهدد مصدر رزقهم الوحيد. في الفترة الناصرية كانت الدعوة هنا واضحة لتعاضد العمـال ضد أرباب العمل، لكن ما جعل الفيلم مهمـا ليس كنيته السياسية مطلقا، بل تلك المهارة المباشرة التي عالج فيها المخرج البيئة الشعبية وما تتداوله من مشاكل وقضايا. كذلك مهارته في استخراج البعد الاجتماعي من التصرفات والعواطف الصغيرة منها والكبيرة. إلى ذلك عمد المخرج للتصوير (كما قام به المخضرم وداد سري) بإضاءة طبيعية، وبذا منح الفيلم بأسره دكانة تناسب وضع بيئة أبطاله المعوزين والفقراء.

لفيلمه التالي، «يوميات نائب في الأرياف» (عن قصـة لتوفيق الحكيم وسيناريو ألفريد فرج سنة 1969) عاد مجددا إلى حكاية تقع في الريف وقبل الثورة المصرية، لكن شرارتها الاجتماعية والنقدية صالحة لأن تعكس حال ما بعدها كما رأى أكثر من ناقد. هذا الفيلم كان آخر تجاربه السينمائية الطويلة في وطنه. بعده توقـف عن العمل سنوات ثم أم مشروعا تقدمت به المؤسسة العامـة السورية لتحقيق فيلم مقتبس عن رواية غسان كنفاني «رجال تحت الشمس». في عام 1972 خرج هذا الفيلم ضمن هالة إعلامية كبيرة كون المخرج اكتسب خلال حفنة أفلامه السابقة مكانة عالية بين النقاد. «المخدوعون»، كما بات عنوان الفيلم، يتحدث عن أجيال المحبطين الفلسطينيين المنتقلين من نكبة إلى نكسة، ومن نكسة إلى هزيمة. ثلاثة أفراد من ثلاثة أجيال يختبئون في قعر صهريج لشاحنة ضخمة للتسلل إلى دولة عربية خليجية للعمل فيها. بعد أن يقدم الفيلم هذه النماذج (مع مشاهد فلاشباك ضعيفة البنية لكنه ملتزم بطريقة سرد الكاتب لروايته) ينطلق لينجز أبعادا منظورة: هؤلاء، كما القضية، لا مستقبل لهم تبعا لضياع مستحكم تداولته السنين والأجيال.

ذلك الفيلم عزز مكانة المخرج العربية (وإلى حد ما العالمية) لكنه آثر مغادرة سوريا إلى العراق حيث ارتبط بعقد تدريس المادة السينمائية في بعض معاهد بغداد، وآخر مع مؤسسة السينما العراقية التي كانت نشطة في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات في تحقيق أفلام ذات غايات سياسية واجتماعية.

* قدمان ثابتتان

* هناك تقدمت منه المؤسسة بطلب لا يمكن رفضه: تحقيق فيلم يروي قصـة حياة الرئيس (آنذاك) صدام حسين، كتبها عبد الأمير معلة، الذي كان يرأس تلك المؤسسة. كشف لهذا الناقد خلال التصوير كم من الصعب أن ينجز فيلما عن شخصية حاضرة مع ذلك القدر من المسلـمات المشروطة. بعد التصوير، وفي لقاء آخر في القاهرة قال: «حاولت أن أحقق فيلما عن النضال من أجل الاستقلال أكثر من كونه فيلما عن شخصية محددة. وأساسا رفضت أكثر من مرة كل عرض تقدمت به المؤسسة العراقية لإخراج الأفلام، لكن مع قصـة تتحدث عن رئيس الدولة نفسه لم يكن أمامي أي مهرب. كان لا بد لي من القبول».

الفيلم، إذ يتناول جزءا من حياة صدام حسين، استقبل جيدا من قـبل المسؤولين العراقيين، لكن النقد والإعلام العربيين اعتبرا الفيلم تراجعا وهزيمة لفكر الأستاذ المخرج. وسواء أشاهد الفيلم كل من كتب عنه أو هو نقل عمن شاهده موقفه، فإن توفيق صالح عايش فترة اكتئاب نفسية ربما ساهمت في توقـفه عن العمل مكتفيا بالتدريس في المعهد العالي للسينما حتى السنوات القريبة الماضية. خلال تلك السنوات حاول يوسف شاهين، إذعانا لرغبته كما لرغبة مثقـفين آخرين، إعطاء توفيق صالح فرصة تحقيق فيلم ينتجه الأول ويخرجه الثاني. لحين بدا كل شيء يسير على هذا النحو، لكن المشروع انهار قبل أن يقف على قدمين ثابتتين. ولم تكن المرة الوحيدة التي تتعرقل خطوات عودة صالح إلى الإخراج. هل كان عدم إيمان بالمشاريع؟ هل كان السبب في أنه لم يكن واثقا كيف يمكن له أن يسترجع همم السنوات الأولى؟ أو لعلها الرقابة الداخلية التي، كما قال للمخرج يوسف ديب ذات مرة، «أقوى من كل الرقابات»؟

مهما كان الجواب، حرمنا توفيق صالح من نفائسه وها هو الموت يحرمنا اليوم منه.

* د. رفيق الصبان: عاشق السينما الولهان

* الناقد رفيق الصبان كان من أكثر محبي السينما الفرنسية، وكم أعجبته أفلامها وخرج من عروضها في مهرجان «كان» الذي كان يؤمـه دوما، راقصا على أنغام مواضيعها وأساليبها، حتى وإن كان يعرف أن بعضها مثرثر والبعض الآخر بلاستيكي اللمعة.

ولد في سوريا ودرس المسرح أولا، ثم انحاز للسينما حال انتقاله إلى القاهرة التي عاش فيها معظم سنوات حياته. وضع ربما مئات المقالات في العديد من الصحف والمجلات، وكتب أيضا أكثر من عشرين فيلما، بينها «الإخوة الأعداء» الذي أخرجه حسام الدين مصطفى سنة 1974 عن رواية فيودور دوستويوفسكي «الجريمة والعقاب»، و«الرغبة» (علي بدرخان - 2002) عن مسرحية تنيسي ويليامز «عربة اسمها الرغبة».