الصناديق الوقفية

TT

لقد كان المقال السابق الذي نشر الأسبوع الماضي توطئة وتمهيدا لما أنا بصدده اليوم، حيث بينت فيه أن مؤسسة الوقف هي مؤسسة إسلامية بامتياز، إلا أنها تعرضت في العالم الإسلامي إبان الحقبة الاستعمارية وما تلاها من أنظمة ثورية للتهميش، في محاولة لإضعاف استقلالية المجتمع المسلم وسيطرته على قراراته والقضاء على أحد أهم الروافد المالية التي كانت تساهم في نهضته العلمية والحضارية. وقد نجحت هذه المساعي، حيث تقلص دور الوقف، وأهملت الأوقاف الموجودة، وفي أحيان كثيرة تم الاستيلاء عليها من قبل الأنظمة أو النظار القائمين عليها أو اندرست معالمها لعدم وجود من يعنى بها لتعطل منافعها. وعلى النقيض من العالم الإسلامي نجد أن الغرب في القرنين الماضيين عني عناية فائقة بالأوقاف، حيث وجد فيها المجتمع الرأسمالي وسيلة لتخفيف الآثار المؤذية التي تنتج عن النظام الرأسمالي الذي يتبنى إضعاف دور الحكومة في حياة المجتمعات التي تتبنى هذا النظام خصوصا في الجانب الاقتصادي. ومن هنا فإننا نجد أن الأوقاف والمؤسسات الخيرية الأخرى بمختلف أنواعها والتي يجمعها مصطلح (المنظمات غير الربحية) قد تصدرت اهتمامات الحكومات ووسائل الإعلام وقطاع الأعمال والسياسيين، مما جعلها تنمو بشكل متسارع بحيث أصبحت تشكل أحد أضلاع مثلث التنمية في هذه البلدان إضافة إلى قطاع الأعمال والقطاع الحكومي. ويكفي لمعرفة مدى قوة هذه المنظمات وما تلقاه من دعم في المجتمعات الغربية أن نعلم أن هذا القطاع استطاع في عام 2008م، وهو عام الأزمة المالية، جمع تبرعات فاقت 76 مليار دولار في أميركا وحدها، وهو رقم يزيد عن العام الذي سبقه بنسبة 1 في المائة. إن مما تتمتع به هذه المنظمات غير الربحية لم يأت من فراغ وليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة لعمل دؤوب تضافرت فيه جميع الجهود للوصول لهذه النتيجة، حيث سعت الحكومات الغربية لإيجاد تشريعات وأنظمة تساعد على نشوء مثل هذه المؤسسات التطوعية، مثل الإعفاء الضريبي ومنح الامتيازات لها وتكريم الرواد في هذا المجال مع وضع النظم واللوائح اللازمة لإدارتها بأمانة وكفاءة والقدرة على مراقبتها مراقبة محكمة مع السعي لحوكمة أعمالها. كما أن هذه المنظمات كانت من النضوج بحيث سعت للتكامل فيما بينها فأنشأت اتحادات ومنظمات وشبكات أعمال للتنسيق فيما بينها وتبادل الخبرات وتطوير أعمالها ودعم بعضها بعضا، بحيث تتولى المنظمات الكبيرة تحفيز الصغيرة وتقديم الخبرة الإدارية لها، بل إن هذه المنظمات كانت من أوائل مستخدمي الإنترنت في مجال أعمالها كجمع التبرعات إلكترونيا والتعريف بمناشطها وأعمالها ونشر تقاريرها المالية. كما عنيت كليات إدارات الأعمال في أشهر الجامعات الغربية بإنشاء أقسام متخصصة في إدارة المنظمات غير الربحية، ومنح درجة الماجستير والدكتوراه في هذا التخصص، مما أوجد جيلا من المهنيين المتخصصين في إدارة هذه المنظمات فانتقلت إدارة هذه المؤسسات من الهواة إلى المحترفين. ومن هنا فإنني أدعو العالم الإسلامي وعلى وجه الخصوص المانحين في دول الخليج والمؤسسات الخيرية إلى الاستفادة من التجربة الغربية لتطوير العمل الخيري في المنطقة عبر الدخول في اتفاقيات شراكة تقنية بين هؤلاء المانحين والجمعيات الخيرية، والمنظمات الغربية غير الربحية الرائدة في هذا المجال بحيث تنقل خبرتها الإدارية والتسويقية للمنطقة. ولعل من أهم هذه التجارب التي يمكن لنا الاستفادة منها تجربة الصناديق الوقفية سواء المقفلة التي يقوم بإنشائها أحد المانحين بماله الخاص، أو المفتوحة التي تسمح لجميع مكونات المجتمع بالمساهمة فيها. والحقيقة أن هذا النوع من مؤسسات الوقف هو من الصور الحديثة للوقف التي لم يعرفها المسلمون من قبل، مع أن الأصل الذي تقوم عليه هذه المؤسسات وهو وقف النقود كان منتشرا في عهد الخلافة العثمانية، حيث أجازه شيخ الإسلام الملا خسرو، وشيخ الإسلام أبو السعود، وقد أجازه في وقتنا الحاضر مجمع الفقه الإسلامي في قراره رقم 140 في دورته الخامسة عشرة المنعقدة في سلطنة عمان. إن أهمية هذا النوع من المؤسسات الوقفية تنبع من الخصائص التي تميزها، وهي قدرتها على جمع المال من جميع طبقات المجتمع، حيث إنها تمنح جميع أفراد المجتمع فرصة الوقف مهما قل دخلهم. كما أنها تمتع بمرونة لا يمكن أن توجد في نماذج الوقف التقليدية القائمة على وقف الأعيان، حيث إن الموقوف هنا هو النقود، وبالتالي فهي لا تخضع للشروط التي تقيد الوقف العيني مثل شروط الاستبدال وتعطل المنافع وعدم التصرف إلا بإذن الحاكم الشرعي وغيرها من الشروط، إضافة إلى أنها تمنحنا القدرة على مراقبة الوقف مراقبة دقيقة تضمن عدم التلاعب في أمواله، حيث إننا نعلم اليوم مدى التطور الذي وصلت إليه آليات الرقابة على المؤسسات المالية وهو ما يمكن تطبيقه على هذه الصناديق. وبالتالي فإن وجود هذا النموذج من نماذج الوقف سوف يمنح المجتمع موارد مالية إضافية يمكن أن تسد الخلل الحاصل في المجتمعات الإسلامية الذي لم تستطع المؤسسات المالية الإسلامية سده بحكم نموذجها التجاري، بحيث يمكن إيجاد صناديق وقفية لتمويل المشاريع بالغة الصغر للمساهمة في محاربة الفقر في العالم الإسلامي، وصناديق وقفية للرعاية الصحية لمن لا يستطيع ذلك، وصناديق للمنح التعليمية وصناديق لتوفير القروض للحرفيين. والله الموفق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية