دور الفتوى في صناعة الصيرفة الإسلامية

لاحم الناصر

TT

تستوقفني بعض الأطروحات المخالفة للنهج العلمي في التحليل، والنقد غير القائم على الحقائق والوقائع، مع ما يشوبها من تناقض، التي تتحدث عن عدم قدرة الفتوى على إيقاف منتجات الصيرفة الإسلامية، حيث نجدها تتحدث عن أن المؤسسات المالية التي تبنت المنتجات المالية الإسلامية، وخصوصا الغربية منها، لا يهمها الحلال والحرام، وأن السوق المستهدفة لم تكن الفئة المتدينة في العالم. فإذا كان الأمر كذلك، فبماذا يبرر أصحابها قبول المؤسسات المالية الغربية العريقة، مثل «داو جونز» و«سيتي بنك» و«ستاندرد شارتر» و«دويتشه بانك» و«إتش إس بي سي»، تحمل تكاليف الهيئات الشرعية وحرصها على حصول منتجاتها على موافقتها، مع سعيها لضمان استمرار هذه الموافقة عبر التأكد من تطبيق الفتوى، من دون الوقوع في أي مخالفات قد تتسبب في حجبها.

أما الحقائق الدالة على أهمية الفتوى، وأنها ركن مكين في صناعة الصيرفة الإسلامية لا يمكن أن تقوم من دونها، فتتبدى في حرص الدول التي قننت صناعة الصيرفة الإسلامية، على اشتراط وجود هيئة شرعية لدى المؤسسات المالية الإسلامية، أو التي ترغب في تقديم منتجات مالية إسلامية تجيز هذه المنتجات وتراقبها، مثل قانون المصارف الإسلامية في لبنان والبحرين وقطر والإمارات وماليزيا، ولائحة الصناديق في المملكة العربية السعودية. كما أن وجود الهيئة الشرعية يعتبر أحد المعايير الشرعية المهمة الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، وهو كذلك أحد معايير الرقابة على المؤسسات المالية الإسلامية الصادرة عن مجلس الخدمات المالية الإسلامية.

وإذا أتينا لجانب الوقائع، فنجد أن هذه الأطروحات لا تتضمن أي وقائع يمكن أن تدعم ما ذهبت إليه من عدم قدرة الفتوى على التأثير في المنتج المخالف، فلم تسق لنا أي واقعة قامت فيها أي هيئة شرعية بسحب موافقتها على منتج ما، ولم يوقف هذا المنتج، بل إن الوقائع تدل على سطوة الفتوى وقوتها. فكلنا نتذكر الأثر البالغ الذي أحدثته فتوى فضيلة الشيخ تقي الدين عثماني بخصوص صكوك المشاركة والمضاربة، وأن 80 في المائة منها غير شرعي، حيث عدها كثير من مؤسسات التصنيف الائتماني أحد أسباب ضعف نمو إصدارات الصكوك في حينه. كما أننا يمكن أن نشاهد قوة الفتوى وشدة سطوتها في امتناع الكثير من المؤسسات المالية التي يرأس هيئتها الشرعية الشيخ حسين حامد حسان عن تقديم منتج التورق المصرفي المنظم مع حاجتها الشديدة إليه، نظرا إلى أن الشيخ يرى تحريمه مع أن هناك الكثير من العلماء قد أجازه. وقد شهدت بنفسي واقعة أجبرت الهيئة الشرعية فيها المصرف على إيقاف المنتج، ورد الأموال إلى العملاء، وذلك بسبب عدم وجود موافقة مسبقة من الهيئة الشرعية، مع مخالفة المنتج للشريعة الإسلامية.

ولعلني ألتمس لأصحاب هذه الأطروحات العذر لوجود هذا اللبس، فالاعتقاد بأن الفتوى لا يمكن أن توقف المنتج بعد إطلاقه هو ما يرونه اليوم من معارضة وتحريم لمنتج التورق المصرفي المنظم من قبل المجامع الفقهية وبعض المشايخ الفضلاء من دون أن يجدوا أثرا لذلك على منتجات التورق المصرفي المنظم في المؤسسات المالية. إلا أن العاملين في صناعة الصيرفة الإسلامية يدركون السبب في عدم تأثر المؤسسات المالية بهذه الفتاوى، ذلك أن مرجعية هذه المؤسسات تكمن في الفتاوى الصادرة عن هيئتها الشرعية، فما لم يصدر عن هيئتها الشرعية قرار بتحريم هذه المنتجات وسحب موافقتها عليها فهي لن توقفها، وهو ما لم يحدث حتى الآن، حيث لا يزال أصحاب الفضيلة أعضاء الهيئات الشرعية في هذه المؤسسات يرون شرعية التورق المصرفي المنظم، ويخطئون الفتاوى التي تحرمه، مع سعيهم للاقتراب من المخالفين عبر جبر الفجوة بينهم بمحاولة الأخذ بملاحظاتهم، والسعي لتصحيح الممارسات التي يتم بها هذا المنتج. وهذا ما ينفي عنهم محاولة إضفاء القداسة على اجتهاداتهم، حيث إنهم يرون أن هذا الوصف لا يجوز إطلاقه إلا على النص (كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم)، وأن ما عداه اجتهاد قابل للخطأ والصواب، ومن ثم فهو قابل للمراجعة والأخذ والرد. والله ولي التوفيق.

* مستشار في المصرفية الإسلامية