يضع الاقتصاديون ورجال الأعمال في لبنان آمالا عريضة على التوجهات الاستراتيجية المتنامية لإنشاء منطقة تجارة حرة جديدة تشمل لبنان وسورية والأردن وتركيا. ويعتبرون أن خطوة إلغاء التأشيرات، التي يتوقع أن ينضم الأردن إليها قريبا من خلال اتفاق مع تركيا شبيه باتفاقي سورية ولبنان، ستفتح الطريق أمام خطوات متتالية لقيام سوق مشتركة تضم نحو 100 مليون مستهلك.
ويبدو أن هذه الآمال تستند صراحة إلى معطيات واقعية أنتجتها الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة سعد الحريري إلى تركيا برفقة وفدين كبيرين وزاري واقتصادي، حيث لمس الجميع حماسة تركية لتطوير شامل للعلاقات مع الدول العربية كلها، واستعداد لفتح متبادل للحدود أمام انتقال الأشخاص والبضائع من دون قيود.
ويؤكد نائب حاكم (محافظ) البنك المركزي اللبناني الدكتور محمد البعاصيري أن «العلاقات مع تركيا شهدت قفزة نوعية أخيرا بعد زيارة الرئيس الحريري، حيث تم توقيع عدة اتفاقيات ومذكرات في مختلف الميادين، ومن بينها إلغاء تأشيرة الدخول بين البلدين. وهذه خطوة حيوية في اتجاه فتح الآفــاق بين البلدين، كما هو الحال بين كل من سورية والأردن ولبنان، ما يعني أنه تم فتح المجال أمام أكثر من مائة مليون مواطن للتنقل بين هذه البلدان من دون تأشيرات دخول. وهذا يمهد لمشروع منظومة اقتصادية إقليمية، أو نواة شرق - أوسطية شبيهة بالنمط الأوروبي، تبدأ من المثلث التركي السوري اللبناني. ومن شأن هذه المنطقة أن تكون شريكا مثاليا للتجمعات الاقتصادية الناشطة، خصوصا منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، ومعبرا مهما إلى أوروبا، التي ترتبط مع دول فيها باتفاقات شراكة».
ويعتبر، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، أن أولى الفرص، إضافة إلى السياحة وفتح أفق التبادل التجاري والاستثماري «ستتمثل في تعزيز التعاون المصرفي القائم بين كل من سورية ولبنان وتركيا في مجالات متعددة وتطويره، منها: التأهيل والتدريب وإيجاد نظام مدفوعات مشترك، والتعاون على المستوى الرقابي، وفي مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وهذا أمر حيوي، حيث إن لبنان يشارك بفعالية في نشاطات مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ((MENAFATF، والمنظمات الدولية والإقليمية المعنية بمكافحة الأموال غير المشروعة. كما يسهم لبنان مساهمة متميزة في أعمال اللجان التابعة لمجموعة (إغمونت)، وقد كان لـ(هيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الأموال) شرف رعاية انضمام كل من سورية والمملكة السعودية إلى هذه المنظمة، هذا بالإضافة إلى رعايتها بلدانا أخرى يؤمل في انضمامها إلى مجموعة (إغمونت) في المستقبل القريب».
ويضيف: «كذلك سيكون أحد أهم مجالات التعاون الواعدة فيما بين دولنا، صناعة الصيرفة الإسلامية، التي باتت قطاعا أساسيا ضمن منظومة العمل المالي الإسلامي، ودورها في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تزايد مستمر، خصوصا مع تنامي أعداد المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية وأحجامها، واتساع قاعدة خدماتها ومنتجاتها وصيغها التمويلية والمصارف الإسلامية في لبنان وسورية وتركيا ولاحقا الأردن، وتنوعها. يمكن أن تتعاون في المجالات كافة، بهدف تقوية إمكاناتها التنافسية في الأسواق المحلية والإقليمية والدولية، وتعزيز التوجه لبناء مجالات تعاون جديدة وتطويرها بين هذه المصارف».
ومن موقعه، باعتباره أول رئيس للهيئة الإقليمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومشرفا على هيئة التحقيق الخاصة منذ إنشائها في لبنان، يقول البعاصيري: «من الواضح أنه قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، لم يكن لدى بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أسوة ببلدان كثيرة أخرى، خبرة في هذا المضمار، وبالتالي لم يتم بذل جهود كافية في الاتجاه المطلوب. كما أن صناع القرار وهيئات القطاع الخاص، لم يقروا سابقا بوجود غسل أموال أو جرائم مالية أخرى في بلادهم. بالإضافة إلى نواح أخرى، جعلت التعاون الدولي للتحقيق في الجرائم المالية المرتكبة مستحيلا كقوانين السرية المصرفية، وعدم وجود قوانين لمكافحة الأموال غير المشروعة. ومن جهة أخرى، فإن انعدام الوعي اللازم على المستوى المهني، كما على مستوى الرأي العام قد زاد تعقيد المشكلة، وأنشأ بيئة ليست ملائمة لاتخاذ ما يلزم من التدابير. وكان الكثيرون يعتقدون أن إنشاء أنظمة لمكافحة غسل الأموال، قد يعرقل تدفق رأس المال ويعوق النمو الاقتصادي».
وأوضح أنه «تبدلت الوقائع جذريا بعد انخراط العالم بأكمله في حملة مكافحة الأموال غير المشروعة، وتجفيف مصادر تمويل الإرهاب. وانضمت إليها بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فعملت على إنشاء أنظمتها الخاصة، وإصدار القوانين والأنظمة اللازمة. وأنشأت وحدات الإخبار المالي، إلى جانب لجان وطنية تتولى تنسيق السياسات والإجراءات على الصعيد المحلي، كما قامت بتدعيم التعاون الدولي وتدريب الموظفين. ففي لبنان، مثلا، كان هناك اتفاق بين المصارف يدعى اتفاق الحيطة والحذر، الذي كان يوجب على كل مصرف أن يبلغ المعاملات المشبوهة إلى لجنة تابعة لجمعية المصارف. والواضح أن اتفاقا من هذا النوع كان أدنى بكثير من المعايير التي حددتها مجموعة العمل المالي. لذلك، بقيت النتائج ضعيفة حتى تم إطلاق هيئة التحقيق الخاصة، التي قامت بتنفيذ توصيات مجموعة العمل لمكافحة غسل الأموال، وقرار مجلس الأمن رقم 1267، فأصبحت الهيئة محورا لاهتمام القطاعين العام والخاص، ومن أهم المؤسسات التي تعكس صورة لبنان».
وفقا لذلك يعتبر البعاصيري أن «بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أصبحت على علاقة متينة بالمجتمع الدولي، وفي وضع يسمح لها المشاركة في تحديد المعايير الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. بمعنى آخر، إن مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي أفضل ناطق باسم المنطقة على الصعيد الدولي».
ويتابع: «قامت مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بإسهامات فعلية كثيرة، منها إعداد 5 دراسات حول (أفضل الممارسات) فيما يتعلق بقضايا الحوالة، والجمعيات الخيرية، ونقل الأموال عبر الحدود، والأعمال والمهن غير المالية المعينة. كما أنجزت المجموعة 8 عمليات تقييم متبادل، إما بشكل مستقل وإما بالتعاون مع هيئات دولية. كما نظمت عددا من ورش العمل والندوات الدراسية والمحاضرات، بالإضافة إلى تدريب فريق من الخبراء شاركوا في عمليات التقييم المتبادل. وبصفتها عضوا مشاركا في مجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال، تتيح مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجالا لأعضائها كي يشاركوا في الاجتماعات العامة، فضلا عن الاستفادة من مناقشة القضايا في ورش العمل الرئيسية».
وعن عجز الإجراءات الدولية في منع الفساد والمضاربات والممارسات الخاطئة التي أفضت إلى انفجار الأزمة المالية الدولية، يتساءل البعاصيري: «فعلا هل من الممكن ألا يكون أحد مسؤولا عن الانهيار المالي؟ أم أيجب التحري عن جرائم مالية أخرى مرتبطة بما حدث؟»، ويرد «يجب أن تكون التحديات الرئيسية التي تواجه المجتمع الدولي على الصعيدين الإقليمي والعالمي بسبب الأزمة المالية وآثارها على الاقتصاد العالمي. فالتحدي الأول هو أثر الخسائر الضخمة التي أصابت الكثير من البلدان والمستثمرين، من جهة، والثروات الضخمة غير المبررة لمديري الشركات الكبرى، من جهة أخرى. أما التحدي الثاني فهو إعادة النظر في الجرائم الأصلية لغسل الأموال وتمويل الإرهاب، وإعادة تعريفها وتحديد مكوناتها بما يمنع الممارسات المتهورة، ويكافح طرح أي منتجات مسمومة في الأسواق».
ويشير إلى تجربة لبنان كنموذج نجح في مواجهة الأزمة المالية وتداعياتها، حيث «ساعدت السياستان النقدية والمصرفية والهندسات المالية، التي انتهجها مصرف لبنان، على تجنيب البلاد مخاطر الكثير من الأزمات المالية والاقتصادية الداخلية والخارجية. فقد اعتبر البنك المركزي أن التعاميم الاحترازية ضرورية لتعزيز القطاع المصرفي، وأن حرية السوق واحترام قواعدها لا يتناقضان مع وضع أسس تنظيمية وقائية. لذلك قام بتنظيم تعاطي المصارف بالأدوات المالية المركبة والمشتقة وإخضاعها لترخيص مسبق من مصرف لبنان، ومنع المصارف من الاستثمار في الأدوات المالية المرتفعة المخاطر والموثقة برهون عقارية من الدرجة الثانية، ووضع سقوفا للإقراض السكني. كما عمل البنك المركزي على تحصين رسملة المصارف، وترشيد عملها، وإبعادها عن الممارسات التي أدت إلى تعثر الكثير منها عالميا مع توسع دائرة الأزمة المالية».
ولخص ملامح هذا النموذج في إرساء نظام نقدي مستقر، حيث هدفت السياسة النقدية، التي اعتُمدت ولا تزال، إلى تحقيق الاستقرار في سعر صرف الليرة اللبنانية، والسيطرة على التضخم. وهذا الاستقرار أساسي للحفاظ على الثقة، وتحقيق النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وتحفيز الاستثمارات الإنتاجية، وتحسين فرص العمل، وفي الوقت ذاته إرساء نظام مصرفي موثوق بتقيّده الصارم بالمعايير والمواصفات الدولية المصرفية والمحاسبية، خصوصا ما يتعلق منها بكفاية رأس المال والإدارة الحكيمة والشفافية والربحية والسيولة ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وعدم السماح بإفلاس أي مصرف استسهالا لحل المشكلات، لأن الأمور لن تتوقف عند معاقبة مساهمي المصرف الكبار ومديريه، بل ستتعداها إلى معاقبة مودعيه والمتعاملين معه والقطاع المصرفي ككل، من خلال إضعاف الثقة به، وقد يمتد الأمر إلى معاقبة حتى مؤسسات اقتصادية أخرى.
وفي رأيه أن «حماية الاقتصاد والسوق تتطلب أن تكون هناك دائما رعاية للدولة أو للمؤسسات التنظيمية والرقابية، لأن الكلام عن اقتصاد حر وسوق متحررة من دون تنظيم ورقابة يعني ببساطة الفوضى. ويجب أن تتمتع هيئات التنظيم والرقابة للأنشطة المصرفية والمالية بالاستقلالية وحفظها من تأثير وضغوطات السلطات السياسية وأصحاب المصالح».
وأشار البعاصيري إلى أن «وضع التعاميم الاحترازية والوقائية لحماية القطاع المصرفي وتجنيبه للمخاطر لم يكن على حساب التسليف. فقد أدرك البنك المركزي، ومنذ مدة طويلة، أن التسليف المدروس ركيزة للنمو الاقتصادي. فاجتهد، خلال السنوات الماضية، في تقديم الحوافز المتنوعة للمصارف من أجل الانخراط في برامج تسليفية تشجع القطاع الخاص على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، وزيادة خلق فرص العمل. وقام بوضع الشروط التنظيمية لإفادة المصارف من دعم الدولة للفوائد المدينة للقروض الإنمائية على اختلافها، سياحية أو زراعية أو صناعية أو حرفية، أو تلك التي تصنع محليا أجهزة تكنولوجيا المعلومات والبرامج والتقنيات المتخصصة، وتقوم بالخدمات المرتبطة بهذه الأجهزة والبرامج والتقنيات. وحدد الحالات التي تحصل فيها المصارف على إعفاءات خاصة في الاحتياطي الإلزامي، حيث يمكن للمصرف الذي يمنح قروضا للمؤسسات الصغيرة أو المتوسطة (زراعية - صناعية - سياحية) لقاء كفالة من (شركة كفالات)، الاستفادة من تخفيض في الاحتياطي الإلزامي بنسبة 60 في المائة من قيمة القروض التي يمنحها بالعملة اللبنانية، هذا بالإضافة إلى استفادة هذه المؤسسات من دعم الدولة للفوائد المدينة، وفقا للشروط الجديدة في النصوص التنظيمية الصادرة عن مصرف لبنان».