عربات البطاطا.. رفيقة شتاء القاهرة

متاريس المصريين في مواجهة لسعة البرد

بائع البطاطا يبيع الدفء قبل أي شيء.. على ورق كتب قديمة، لم يعد أحد مهتما بقراءتها، وفي العادة تكون كتبا مدرسية، يبيعك «حبة بطاطا» («الشرق الأوسط»)
TT

حين يجبر شتاء القاهرة المصريين على التزام الحذر، تنتشر عربات البطاطا في الشوارع والميادين، وعلى أبواب النوادي ودور السينما والملاهي، دون اتفاق مسبق، في محاولة لمواجهة مزاج الشتاء المتقلب غير المأمون. وتبدو هذه العربات وسط هذه الأجواء وكأنها متاريس اعتاد أبناء المحروسة على الاحتماء بها من لسعة البرد، خاصة في شهر طوبة الذي اختصته المخيلة الشعبية بمثل شعبي شهير.. «طوبة يخلي الصَّبيَّة كركوبة (عجوز)»، وهم الذين أدمنوا السهر، فعرفت عاصمتهم بالمدينة التي لا تنام.

بائع البطاطا يبيع الدفء قبل أي شيء.. على ورق كتب قديمة، لم يعد أحد مهتما بقراءتها، وفي العادة تكون كتبا مدرسية، يبيعك «حبة بطاطا» ساخنة.. بعد أن يشقها طوليا بسكين، وتتفجر بلونها البرتقالي المشرّب بحمرة شهية، تذكرك بإشراقة شمس شتوية رائقة، يلفها بابتسامة واثقة في ظهر الورقة الأبيض، خوفا من أن تلوثها أحبار الطباعة، ومع أول قضمة، يسري الدفء في أوصال جمدها البرد القارس في الأمسيات الشتوية، أو الصباحات المبكرة.

حول فرنه الصاج، بشكله الاسطواني المميز، ومدخنته الصغيرة؛ يتحلق زبائنه طمعا في دفء يبثه الفرن الذي يوقده بقطع خشبية كانت في الأغلب تستخدم في عمليات البناء، يدفع بها عبر باب جانبي صغير ليؤجج ناره، بينما يضع الحبات الناضجة فوقه، ليحافظ على سخونتها.

يثبت الفرن في الركن الأيمن فوق عربة خشبية تدفع باليد، وربما دون سبب واضح لا يشذ عن هذه القاعدة أحد من باعة البطاطا، بينما تنشر على سطح العربة درنات البطاطا في انتظار دورها، لتدخل من باب الفرن الضيق المفتوح على باب الرزق الواسع.. و«تساهيل ربنا»، و«الدفا عفا»؛ يعني صحة وعافية.. هكذا ينادي «عم خليفة» على عربته، وكلما اشتد زحام الزبائن ينوع من إيقاع النداء، وكأنه في حلم جميل فوق سطح عربته بدخانها الرمادي المميز.

يعمل عم خليفة في الصباح فقط، فهو لا يقوى على العمل ليلا.. يخرج عند السادسة صباحا، ويقف بالقرب من تجمع مدارس في حي الهرم، حيث يعتمد بالأساس على خروج الموظفين لأعمالهم وطلبة المدارس. أما في المساء، فيسلم العربة لابنه سعد، الذي يعمل صباحا في أحد مراكز الشباب. وسعد يفضل في الأمسيات الاعتماد على رواد السينما، ومراكز التسوق الكبيرة، بالحي نفسه.. كما يخبرنا عم خليفة.. «زبون الصبح غير زبون الليل».

الاختلاف في نوعية الزبون يؤثر بالأساس على الأسعار، فزبون الصباح الذي يرغب في إفطار سريع، أو حتى تحلية بعد إفطاره، أكثر حساسية تجاه المبالغة في السعر، على العكس من زبون الليل الذي يخرج من أجل الترفيه، وهو ما يجعله لا يتوقف كثيرا أمام المبالغات. زبون الصباح لا يقبل شراء حبة البطاطا بأكثر من نصف جنيه، إن كانت متوسطة الحجم، لكنه قد يدفع فيها جنيها كاملا في المساء.

السعر لا يرتبط فقط بالزمن، فالمكان له دور كذلك. فـ«عم عبد التواب»، الذي اختار حي المهندسين ليبحث فيه عن رزقه، يبيع حبة البطاطا المتوسطة بجنيه ونصف جنيه، صحيح أنه يقبل التعامل بنصف جنيه، لكنه في هذه الحالة يقتطع لك جزءا من حبة كبيرة.

عم عبد التواب صعيدي من أسيوط (جنوب البلاد)، استقل القطار قبل سنوات لم يعد يذكر عددها، ولم يعد مهتما حتى بإحصائها.. جاء ليعمل في مجال البناء، كمعظم أبناء محافظته، لكن حالته الصحية حالت دون تحقيق طموحاته في أن يقفز على السلم الاجتماعي، ليصبح مقاولا للبناء.. وهو حلم كل الراحلين إلى القاهرة، لينتهي به الحال كبائع بطاطا.

اشترى عم عبد التواب عربة اليد بـ«1500 جنيه والله.. والفرن بـ220، وعشان الحلفان 200 جنيه، والعشرين حق نقله». وقد زود عربته بتقليعة جديدة، إذ أضاف لها درجين يحتفظ فيهما بما يجود به الله عليه من رزق «الحال مابقاش زي زمان.. والناس تغيرت». لكن عم عبد التواب لم يتغير، فهو رغم حرصه ما زال يترك العربة وحدها والمفتاح في مكانه بالدرج، فالنوايا الطيبة تغالبه. وبحكمة النار ولسعة البرد، أصبح لا يطمع من الدنيا في شيء سوى أن يستر بناته الثلاث في «بيت العدل (الزواج)»، ويرى ابنه وقد تخرج في كلية «محترمة»، وهو ما يراه أملا جميلا يستحق الشقاء والتعب.. وثمرة تمنحه حلاوة تعود أن يبيعها للناس، وآن له أن يتذوقها.

«معسلة يا بطاطا»، نداء شهير رافق هذه المهنة دائما.. بلا ابتكارات ولا إضافات، وقد اعتاد «جمعة» ترديده بينما يدفع عربته في شوارع القاهرة.. فهو ما زال شابا، وبإمكانه تغيير مكانه باستمرار، بخلاف عم عبد التواب الذي يحرص على أن يبقى في مكانه دائما، ليعتاده الناس، ويقصدونه كلما رغبوا في شراء البطاطا.

«جمعة» يجري خلف لقمة عيشه، يلاحقها في الأزقة والحواري، يشق حبة البطاطا، ويضيف الملح حسب الطلب. فالبعض يفضل أن يكسر حلاوة البطاطا بالملح، وهو أمر لا يفهمه جمعة، لكنه لم يعد يهتم.. فالمهم أن يجد من يشتري، سواء أحبها خالصة الحلاوة أو بالملح، لا فرق.

وعن أشهر أنواع البطاطا، يقول العم عبد التواب: «كل أنواع البطاطا حلوة ولذيذة، وكان زمان تلاقي زبون يسألني: عندك بطاطا بيضا، وهي أحلى أنواع البطاطا، أما الآن فقد اختفت هذه البطاطا، ومش عارف ليه». يبتسم عم عبد التواب وهو يقدم قطعة بطاطا ساخنة، ويقول: تفضل يا بك.. تذوق. هذا واجب الضيافة.