المنجدون عددهم لا يتجاوز العشرين في دمشق.. ومعظمهم من كبار السن

المهنة في تراجع مستمر.. والشباب يرفضون ممارستها

منجد سوري من القلائل الذين مازالوا يعملون في هذه المهنة («الشرق الأوسط»)
TT

على الرغم من اعتماد السوريين على الأدوات العصرية الحديثة في مختلف مستلزماتهم المنزلية والشخصية من المفروشات مثل الأغطية المحضرة في مصانع، التي استخدمت فيها أنسجة ومواد مصنعة مثل الإسفنج والكومفورت والداكرون.. وغيرها، فإن الكثير من الأسر في حارات دمشق الشعبية والأرياف ما زالوا مصرين على استخدام الفرش المحضر يدويا من صوف الأغنام والأغطية المحضرة من القطن الطبيعي ووسائد النوم (المخدات) المحضرة أيضا من هاتين المادتين.

ومع إصرار هذه الأسر على التمسك بها، التي تحتاج إلى طريقة يدوية في التحضير ومن ثم إعادة صيانتها بشكل سنوي من قبل حرفيين دمشقيين عرفوا باسم (المنجدين). ويقومون بعملهم من خلال محلات واسعة توارثوها عن أسرهم في مناطق شعبية وأسواق قديمة مثل الميدان وباب سريجة ومئذنة الشحم وغيرها، حيث يلاحظ الزائر لهؤلاء وهم يعملون بهمة ونشاط من خلال أكوام من الصوف مفرودة أمامهم يقومون بضربها وتفريدها بشكل يدوي وبواسطة آلة رفيعة حادة خاصة بالتنجيد.

محمود ملاحفجي (أبو سعيد)، أحد المنجدين الدمشقيين الذين يعملون في هذه المهنة اليدوية منذ نصف قرن ويرفض التخلي عنها، على الرغم من أن أولاده الـ5 رفضوا العمل معه فيها وفضلوا العمل في مهن عصرية، لأنها لا تقدم لهم الدخل المادي الجيد، كما يقول أبو سعيد لـ«الشرق الأوسط» متحسرا على مستقبل مهنته التي ورثها عن والده.

ورث المحل عن والده في حي العمارة بدمشق القديمة وظل مفتوحا لمهنة التنجيد اليدوي منذ عشرات السنين، فيما يتوقع أن يغير أبناؤه هوية المحل إلى مهن عصرية مثل بيع الجوالات أو التلفزيونات وغير ذلك، فهي أكثر ربحا وأسهل في الحصول على المال. ولكن، يضيف أبو سعيد، من يعمل في مهنة التنجيد لا يمكنه أن يتخلى عنها حتى ولو انخفض العمل فيها بسبب ظروف العصر الحديث ودخول مختلف أشكال وأنواع المفروشات الحديثة.

المهنة أصبحت جزءا من حياة هؤلاء، ولذلك يقدر ما تبقى من المنجدين في دمشق لا يتجاوز عددهم الـ20 منجدا، وهم غالبا من كبار السن حيث لا يوجد شباب يعملون فيها، رغم أن هناك عودة من قبل بعض الأسر الدمشقية، وحتى الشابة منها، وليس الأسر التقليدية فقط، بالعودة إلى استخدام فرشات الصوف والوسائد والألحفة المصنعة من القطن وصوف الأغنام الطبيعية. السبب كما يعتقد أبو سعيد هو أن الأسر التي استخدمت الفرشات الحديثة والألحفة المحضرة من مواد صناعية غير طبيعية لم تقدم لهم الراحة التي يرغبون فيها في نومهم، كما كانت تقدم لهم الإعلانات التجارية ووسائل الترغيب للترويج لهذا الفرش والوسائد فعادوا إلى تراث الأمهات في الاعتماد على الصوف، خصوصا أنها مواد طبيعية ومريحة للجسم، ولا تسبب أي حساسية أو مشكلة. كما أن بعض الأسر تأثرت بمسلسلات الشامية مثل «باب الحارة»، فعادت إلى الاعتماد على ما هو تراثي وتقليدي في حياتهم ومنه الفرش المنجد بطريقة يدوية الذي يظهر في هذه المسلسلات من خلال المنجدين التقليديين في سوق الحارة. ولكن استخدام هذه المستلزمات في البيوت يحتاج إلى عناية خاصة، كما يقول أبو سعيد، وهذه تعرفها جيدا النساء الدمشقيات القديمات وهي تشميس الفرش والألحفة والوسائد بين فترة وأخرى، خصوصا في فصل الشتاء عندما تسطع الشمس حتى لا تتعرض للرطوبة.

كما أنه من الضروري قيام المرأة بنزع الصوف والقطن داخل الفرش والألحفة كل عام أو عامين وفردها في باحة المنزل التقليدي أو على الشرفات حتى تتعرض بشكل جيد للتهوية، خصوصا أن الصوف هنا وبسبب النوم عليه لفترة طويلة يتحول إلى قطع صلبة تسبب عدم الراحة لمن يستخدمها، ولذلك يتم تنجيدها بالطريقة اليدوية مع تنفيشها وتطريتها وإعادتها إلى الأغطية بشكل فني يدوي مع تطريزات وحبكة يدوية.

وحول طريقة العمل في التنجيد والمستلزمات ومتطلبات المهنة قال أبو سعيد: «إن ما يميز مهنة المنجد أنه يمكن أن يعمل في محله أو في المنازل والبيوت حيث يطلبنا أصحاب هذه البيوت لتنجيد مفروشاتهم بعد أن يكونوا قد جهزوا المستلزمات كافة، وغالبا كانت الأم التي تريد تزويج ابنتها أو ابنها تجهز له هذا الفرش اليدوي فيقومون بطلبنا لتنجيده بطريقة عرائسية، حيث نزينه وننفذه بطريقة جميلة تتناسب والمناسبة السعيدة، وكانت تجهيزات العروس من قبل الأسر السورية في السابق تعتمد على التنجيد اليدوي ولا تعتمد على الفرش الجاهز، حيث يسجلون لدينا أسماءهم قبل فترة العرس بأسابيع، ونحدد لهم تاريخ مجيئنا أو جلب المستلزمات للمحل حتى ننجد الفرش، ويكون جاهزا لتحمله العروس معها إلى بيت الزوجية أو يوضع قبل أيام قليلة في منزلها وفي غرفة نومها على السرير حتى يكون كل شيء محضر بشكل جيد من قبل أهل العروسين لليلة الزفاف».

وحول أنواع التنجيد المعروفة في دمشق قال أبو سعيد هناك أنواع متنوعة حسب طريقة التحضير للقماش المغلف للصوف والقطن، ومن هذه الأشكال هناك الإسكندراني والعربي، وهذه تنفذ بطريقة انسيابية، وهناك قالب البريم وقالب الإسطنبولي، وينفذ من خلال جعل الغطاء مجعدا بشكل فني من الأطراف والزوايا في حين تكون الفرشة انسيابية في وسطها أما أوجه الألحفة والأغطية والوسائد فننفذها بطريقة فنية بواسطة نقوش وزخارف معروفة مثل الفراشة والنجمة والعصافير، وهي تكون جاهزة وننقلها إلى الغطاء، ويمكن للمنجد أيضا أن يبدعها من خياله.

وفي فترات ازدهار المهنة، يقول أبو سعيد: «كنا نتنافس على ابتكار الزخارف التي نزين بها الأغطية، وخصوصا إذا كانت لجهاز عروس، حيث نحولها إلى لوحات فنية تمتع عين الناظر إليها، أما في الوقت الحالي فلم يعد أحد يتحمس للابتكار وصارت الطباعة تتم بشكل آلي وسريع وتكلفته أقل. كما أن مهنتنا تحتاج لجهد يدوي كبير وعزم قوي، وكنا نتدرب لعدة أشهر على التعامل مع الصوف حتى نتقن ضربه وتفريده، فالعمل هنا دقيق ويحتاج لفن مع قوة بدنية.

وبعد الانتهاء من مرحلة التفريد تأتي مرحلة العمل الفني عبر تشبيك اللحاف والفرشة وبواسطة أدوات حادة وإبر كبيرة وخيوط خاصة ليصبح الفرش جاهزا ومنجدا. وكل هذه المراحل تحتاج إلى صبر وطول بال وحب للعمل من قبل المنجد».