دمشق: تحويل منزل أبو خليل القباني لمتحف ومسرح ومركز ثقافي

بعد أكثر من مائة سنة على وفاته

مبنى مسرح أبوخليل القباني وسط دمشق
TT

قبل أكثر من مائة سنة، وتحديدا عام 1903، رحل رائد المسرح العربي الدمشقي أبو خليل القباني، بعد إصابته بمرض الطاعون. وترك سجلا حافلا بالمنجزات الفنية والاجتماعية والإبداعية، لا سيما بعدما انتقل إلى مصر للعيش فيها. ولقد أسس القباني، الفنان الفذ، المتعدد المواهب، بحق مفهوم المسرح الموسيقي، وبخاصة أنه كان ممثلا ومخرجا ومطربا وملحنا، كما كان يجيد الكثير من اللغات العربية والتركية والفارسية.

وعبر السنين احتفى الدمشقيون بابنهم اللامع من خلال كتابة الكثير من المؤلفات عن آثاره. غير أن أبرز مظاهر تكريمه تمثل في تأسيس مسرح باسمه كان من أوائل مسارح القطاع العام في دمشق، وهو يتبع لوزارة الثقافة، ويقع وسط العاصمة السورية في منطقة عين الكرش قرب ساحة السبع بحرات.

غير أن الخطوة الأخرى، التي لا تقل أهمية عن المسرح، جاءت عبر إقدام وزارة السياحة السورية على استملاك منزله الترابي المتهدم في منطقة كيوان، غرب دمشق، حيث كان يعيش ويتدرب على أعماله المسرحية مع أعضاء فرقته. واليوم تعمل الوزارة على إطلاق مشروع إعادة بنائه كما كان، وافتتاحه كمتحف لمقتنيات القباني ومركز للنشاطات الثقافية، إلى جانب تحويل حديقة المنزل إلى مسرح هواء طلق.

الجدير بالذكر أن مسرح القباني بدمشق أسس كأول مسرح حكومي عام 1959، وبرز منذ ذلك الوقت من خلال تقديم عروض المسرح القومي عليه، قبل أن تطلق وزارة الثقافة مسرح الحمراء في منطقة الصالحية أواخر ستينات القرن الماضي. ولقد استقبلت خشبة مسرح القباني أعمال الكثير من نجوم الفن السوريين الكبار، منهم الراحل نهاد قلعي ومنى واصف وأسعد فضة ورفيق سبيعي وسليم صبري وطلحت حمدي وغيرهم من رواد المسرح السوري، وما زال يستقبل أعمال المسرحيين السوريين الشباب والكبار، وحتى مسرح الطفل، ليظل يعج بالحيوية والنشاط باستمرار في كل الفصول والأوقات.

أما عن سيرة حياة هذا الرائد اللامع، فيفيد عدد ممن تابع أو درس حياة «أبو خليل» القباني وآثاره الإبداعية أنه ولد عام 1833 في حي باب سريجة الدمشقي، وعاش حياة مريرة بسبب عشقه للمسرح خاصة الغنائي منه، ووجوده في زمن ومجتمع لا يتقبل بعض أفراده المحافظين مثل هذه الفنون، بل يعتبرها غريبة عن العادات والتقاليد التي يعيشها المجتمع. وفي هذا الصدد يقول الكاتب والناقد المسرحي السوري عبد الفتاح قلعجي إن الولادة الفعلية لفرقة القباني كانت في عام 1871 في بيت جده. وعندما ازداد الإقبال على مسرحه انتقل إلى سوق العصرونية في دمشق القديمة، بجانب سوق الحميدية، وحظي في ذلك الوقت بتشجيع الوالي العثماني المتنور مدحت باشا. ولقد توافرت في مسرحه الشروط الحقيقية من صالة وخشبة وموعد دائم معلن لبدء العرض وبطاقة وفرقة محترفة والجمهور المسرحي المتابع للعروض والوالي وحاشيته.

وحسب قلعجي «دفع الإقبال الجماهيري على مسرح القباني من لا يملك ثمن التذكرة أن يبيع ما في منزله لمشاهدة عروض مسرحياته. وكان البعض يمضون طيلة النهار بانتظار المسرحيات، حتى غدت البطاقات تباع في السوق السوداء».

وفي عام 1892 سافر «أبو خليل» القباني مع عشرين ممثلا إلى شيكاغو في الولايات المتحدة، ثم عاد إلى القاهرة فدمشق وحمص. ولكن بوفاة الوالي مدحت باشا تعرض مسرحه في دمشق للتحطيم على أيدي أزلام أصحاب النزعة المحافظة الذين اعتبروا المسرح بدعة، خاصة، أنه استعان بعناصر نسائية في مسرحه. كذلك أثار حفيظة البعض ظهور شخصية الخليفة العباسي هارون الرشيد بشكل تهريجي في إحدى مسرحياته.

وهكذا، في أعقاب تدمير المسرح في دمشق غادر «أبو خليل» سورية متوجها إلى مصر، وهناك أسس في القاهرة مسرحا خاصا مع تجهيزاته على أرض منحه إياها الخديو. غير أن مسرحه الجديد في مصر تعرض هو الآخر للحرق. ويعتقد قلعجي أن سلامة حجازي ربما كان وراء حادثة إحراق مسرح القباني في القاهرة، بينما يرجح الباحث السوري أحمد بوبس أن يكون وراء الحريق المفتعل كل من إسكندر فرح وسلامة حجازي. ويشرح بوبس أن القباني ينتمي إلى أسرة تركية أصلها من مدينة قونية في الأناضول، ولقد انتقل جده إلى دمشق. وكان منذ صغره يشاهد مسرح «خيال الظل». وقد رافق عروضه المسرحية في الولايات المتحدة صدور عدة كتب باللغة الإنجليزية عن نشاطات فرقته، كما أنه شيد ديكورات مسرحه هناك بشكل تراثي شرقي يشبه خان أسعد باشا التاريخي بدمشق القديمة، والذي كان قدم بعض مسرحياته فيه.

وبعد أن عاد «أبو خليل» إلى دمشق عام 1900، تلقى دعوة إلى اسطنبول، وخصه السلطان العثماني بمبلغ مالي لإعادة بناء مسرحه، لكنه ما لبث أن توفي بمرض الطاعون يوم 21 ديسمبر (كانون الأول) 1903. لا يزال قبره في باب الصغير بدمشق معروفا. ويطالب المهتمون بمسرح «أبو خليل» بترميمه مع بيته.