الحاج سعد.. أقدم «رفاء» في مصر

خبرة الحاج سعد جعلت منه مدرسة يتعلم منه كثيرون («الشرق الأوسط»)
TT

«اللي انكسر عمره ما يتصلح»، مثل مصري يوضح أنه لا فائدة من إصلاح الشيء الذي تعرض للتلف، لكن مهنة «الرفا» المهددة حاليا بالانقراض من يعملون بها لا يؤمنون بهذا المثل، فهم يمسكون بالإبرة والخيط في أيديهم بمهارة ليس لحياكة ملابس جديدة، ولكن لإصلاح أي قطع في الملابس أو معالجة تلك التي أصابتها حرارة المكواة أو لإخفاء أي عيوب أخرى كي تعود إلى حالتها الطبيعية.

«عفيفي عويس» أو الحاج «سعد»، يعد أقدم رفاء في مصر، عمره 79 عاما، وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يزال يمارس مهنة «الرفا» بكل نشاط ودقة وفن، فهو لا يعرف عملا آخر غيرها منذ طفولته.

قد تظن أن الرجل يمارس عمله في أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة أو وسط فئات البسطاء، لأنهم من يقبلون على إصلاح ملابسهم البالية لضيق ذات اليد، لكن الحاج سعد يخلف ظنك، فعند تجوالك بحي الزمالك الراقي المكتظ بسفارات الدول الأجنبية، ويسكنه الكثير من رجال السلك الدبلوماسي الأجانب في القاهرة إلى جانب مشاهير المجتمع المصري في شتى المجالات، ستجد الرجل يمارس «الرفا» في محله القديم مقدما خدماته لكل الزبائن.

بدأت رحلة الحاج سعد مع مهنة «الرفا» وعمره 14 عاما، ترك الدراسة بعد المرحلة الابتدائية، فقد كانت مهنة مزدهرة في ذلك الوقت (منتصف الأربعينات من القرن العشرين).

يعود بذاكرته للوراء عشرات السنين قائلا: «بعد أن تركت الدراسة أخذني خالي للعمل معه، فقد كان يمتلك محلا للرفا في ميدان سليمان باشا بمنطقة وسط البلد (طلعت حرب حاليا)، كصبي لمساعدته، استهوتني المهنة وتعلمتها منه سريعا، وقررت أن تكون هي مهنتي التي أرتزق منها».

تعتمد مهنة «الرفا» في الأساس على العمل اليدوي، حيث يتم رفو الملابس بطريقة النسيج باستخدام الإبرة وخيط من نفس قماش الملابس المراد إصلاحها، حيث يلضم الخيط في الإبرة عن طريق فتلة خيط عادية، ثم تغرز الإبرة في طرف القطع أو الثقب وتجر من الطرف الآخر، وتكرر الخطوة السابقة بحيث تكون الخيوط ملاصقة لبعضها حتى يسد القطع تماما، وهو ما يسمى «تلقيط» أو«تلضيم»، ثم تكرر إذا لزم الأمر لكن بطريقة عرضية أي خيط فوق خيط، وأحيانا يلجأ الرفاء إلى عملية «ترقيع» للقطع من الداخل عن طريق وصلة من القماش، وفي الحالتين يتم كي مكان الرفو بالمكواة بعد رشه بالماء.

ازدادت خبرة الصبي «سعد» بعد أشهر قليلة ليصبح «نص صنايعي»، ويبدأ في التنقل بين أكثر من «رفا» حتى يزيد راتبه، يكمل كلماته مستعيدا روح سنوات الشباب: «مشيت واحدة واحدة حتى أصبحت صنايعي شاطر، وبعد 5 سنوات قررت أن أستقل بمهنتي في محل مستقل، لأتجه إلى حي الزمالك وأبدأ فيه رحلتي منذ عام 1950 وما زلت فيه حتى اليوم».

اختار الرجل حي الزمالك «الإفرنجي» تحديدا لأنه أدرك بخبرته أن من يقبلون على رفو الملابس هم الأغنياء ولا يقبل عليها بسطاء الأحياء الشعبية، فالغني يمتلك الملابس غالية الثمن، وعندما يحدث بها قطع أو ثقب صغير ليس من المعقول التخلي عنها أو شراء غيرها لهذا السبب البسيط، وبالتالي يقبل على الرفاء لإصلاح هذا العيب.

نجحت نظرية الحاج سعد تجاه زبائن الرفا، وفي سنوات قليلة ذاع صيته، لتصبح زبائنه من العائلات الراقية الشهيرة، إلى جانب فنانين، ودبلوماسيين، وكتاب وصحافيين، ونواب في البرلمان، وأطباء وأساتذة جامعة، وأصحاب الملابس المرموقة.. يتحدث الرجل بفخر عن زبائنه: «كوكب الشرق (أم كلثوم) كانت من زبائني، كانت ترسل لي ملابسها لأقوم بإصلاحها، وكذلك الكثير من الفنانين وأبنائهم، والحال لا يزال كذلك حتى الآن، يترددون عليّ لأصلح ما أفسده الدهر بملابسهم، كذلك الأجانب المقيمون بالقاهرة من زبائني، بل إن هناك ناسا من أميركا عندما عادوا إلى بلادهم أرسلوا لي ملابس في طرود لأقوم بعملية رفو لها، لأنها ملابس غالية تقدر بآلاف الدولارات ولا يمكنهم التفريط بها».

يتذكر الحاج سعد أجر الرفاء قديما حيث كان يتراوح بين 3 صاغات إلى 5 صاغات، أما اليوم فيتراوح بين 15 إلى 20 جنيها وفق حالة التلف في الملابس، وبحكمة علمها له الزمن يقول: «كله محصل بعضه.. ده رزق بتاع ربنا منقدرش نتكلم فيه».

شعور داخلي بالسعادة يملأ الحاج سعد عندما يرى الابتسامة ترتسم على وجه الزبون الذي تمت له الرفا، الذي لا يسعه إلا أن يقول مادحا: «الله ينور.. إيديك تتلف في حرير»، فبرأي الرفاء العجوز: «الرفا زي الرسام.. بيعمل شغل فني دقيق». فلا يقتصر عمل الرفاء على الملابس بأشكالها المختلفة، بل يمتد إلى الكانفاه والأوبيسون (المفارش) والستائر والسجاد، والأخيرة لها الرفاء المتخصص بها حيث تكون أدواته مختلفة بعض الشيء عن أدوات رفاء الملابس، فالإبرة تختلف في الحجم فتزيد حجمها وكذلك سمك الخيط إلى جانب استخدامه لشاكوش وقدوم خشبي.

يقلب الحاج سعد قطعة ملابس أمامه أتى بها أحد زبائنه، يحدد القطع، ثم يهم بالإمساك بالإبرة والخيط ويبدأ في غرز الإبرة في طرف القطع ويجرها من الطرف الآخر، ويكمل: «بره مصر مفيش حاجة اسمها رفا، فهي مهنة مصرية مائة في المائة، بدأت بها منذ أوائل القرن العشرين فقد كانت وقتها الملابس الموجودة تصنع من أقمشة غالية الثمن أغلى من الحرير الطبيعي، وكان أبرزها الشال الكشمير والجلباب الصوف الطبيعي والعباءات الهيلد وقماش الجوخ والتيل، وهذا ما خلق الحاجة إلى وجود الرفا، أما الرفاه فقد كانوا متواجدين في منطقة الأزهر والحسين وخان الخليلي وازداد عددهم في فترة الثلاثينات، ومن هذه الأماكن انتشرت الرفا في ميادين القاهرة مثل عابدين، ووسط البلد، والسيدة زينب، ومنها انتقلت الرفا إلى الإسكندرية والمحافظات المصرية». وبلغة الخبير يستطرد حديثه: «أكثر أنواع التلف في الملابس تكون من الحروق سواء من حرارة المكواة أو السجاير، كذلك تصيب حشرة (العتة) في الشتاء الملابس المخزنة داخل الدولاب مما يصيب قطعة الملابس الواحدة بعدة ثقوب، وهو ما يزيد الإقبال على الرفا في فصل الشتاء، أما الوسائل الحديثة التي ظهرت لإصلاح الملابس مثل البدرة التي ترش على القطع أو الشرائط اللاصقة، فأنا أعتبرها غشا لأنها لا تمكث طويلا ويعود التلف إلى ما كان عليه، بعكس الرفا التي تعيد الشيء لطبيعته، وإذا لم يعجبني ما قمت به أقوم بفكه وعمله من جديد، فالزبون رأس مالي ويجب المحافظة عليه». السنوات الطويلة في مهنة الرفا جعلت خبرة الحاج سعد بمثابة مدرسة يتعلم فيها عمال كثيرون، يشير إليهم بقوله: «أنا علمت صنايعية كتير.. كتير»، مشيرا إلى أن العامل يبدأ في تعلم الأشياء البسيطة أولا مثل القطع غير الظاهر، وعندما يتقن ذلك ينتقل إلى العمل بشكل احترافي، أما المبادئ التي يعلمها للعامل فأولها أن يحدد مدى صلاحية الرفا مع قطعة الملابس فهناك قطع لا تجدي معها الرفا، يلي ذلك فحص لونها لاختيار الخيط الملائم، ثم تبدأ عملية الرفو وتتوقف على مهارة العامل، يكمل: «الرفا يجب أن يكون صاحب نظر جيد لأن العمل يحتاج للدقة، وأيضا الصبر وطول البال، كما أن الممارسة تزيد من خبرته». وعلى الرغم من تخرج العشرات من تحت يديه، فإن ما يحزن الحاج سعد أنه لا يعلم هل لا يزال تلاميذه يمارسون الرفا أم لا: «زمان كان هناك ولاء من العامل لمن علمه الحرفة، أما الآن فلا»، ويكمل بحزن: «الرفا في طريقها للانقراض والعاملون بها قلوا جدا، والسبب أن الكل يحرص على حصول أبنائه على الشهادات الدراسية، كما أن ثقافة تعليم الحرف والصناعات غير موجودة، ومهنة الرفا تحتاج إلى صبر كبير لساعات طويلة، والأجيال الحالية لا تستطيع ذلك»، ويصمت قليلا ثم يكمل: «أنا متضايق، لا أجد أحدا يساعدني وإذا وجدت فهم ليسوا مهرة ولا يصلحون لخدمة الزبون»، ثم يهز رأسه: «الحمد لله.. أنا أخذت حقي وخلاص».