لوسيان دهان.. أقدم بائع تحف في الإسكندرية

يجمع تاريخها في زوايا دكانه ويتحسر على زبائن زمان

لوسيان في ردهة دكانه تعلوه صورة للملك فاروق وساعات توقف نبضها («الشرق الأوسط»)
TT

روائح تاريخ الإسكندرية بكل طبقاته وأزمنته تتسلل إليك، وأنت تتأمل تقاسيم وجهه، وهو يهمس في صمت «قول للزمان ارجع يا زمان!»، منكمشا داخل عباءته الستينية، يتأمل أطلال ماض يطل في قطعة «أنتيك» قديمة، أو برواز صورة، لا يعرف كيف اختفى صاحبها منه.

الخبرة وحكمة السنين هما سلاح «لوسيان دهان» المصري من أصل لبناني، وهو يجلس في ردهة دكانه الفسيحة في شارع صلاح سالم، بمنطقة المنشية، قلب الإسكندرية التجاري النابض دوما بالحيوية. وبأناقته المعتادة يتأمل صورا للملك فاروق وبعض اللوحات الزيتية القديمة وساعات حائط تجمدت عقاربها.. روائح مختلطة بالتاريخ والرطوبة والأخشاب القديمة وقطع الأثاث والسجاجيد والأواني البالية.

لوسيان على رغم هيئته الموحية بأنه «خواجة» يتشبث بحقبة انقضت ويصرخ بقوة: أنا مصري من ثلاثة أجيال، ومولود في مصر. ويروي بعد أن نفض الغبار عن ذاكرته قصته مع بيع التحف القديمة، والتي بدأت عام 1963 حيث كان على مشارف الثلاثينات يقول: «اشتريت الدكان من واحد اسمه بشارة طوا سوري مصري ورثه هو وأخواته عن أبيهم، وكانت الضرائب قد حجزت على المحل وباعته، والورثة سافروا وعايشين حاليا في فرنسا وأنا غيرت اسم الدكان من «طوا» إلى «السوق القديم» وهو اسمه حتى الآن.. «أنا الوحيد في الإسكندرية اللي بشتغل في الأنواع ديه من التحف القديمة والتقليد، عندي حاجات خان الخليلي كلها، والخشب والصدف، الأطباق والصحون والنحاس القديم، وكمان بعمل صيانة وغسيل للسجاد الإيراني، والمشغولات اليدوية والبرونز. في العطارين في ناس تشتغل في حاجات قديمة، بس بنوعية مختلفة».

وبحنو يستعرض لوسيان محتويات دكانه من فساتين مصنوعة من الفضة، وطرابيش وأواني نحاسية، وجراموفونات، وآلات موسيقية حفر الزمن آثاره عليها. وحين سألته: يعني أنتيكات! انتفض رافضا أن أطلق على محتويات دكانه لفظ «أنتيكات»، قائلا «إنتوا الصحافيين بتستعملوا الأنتيكات في كل حاجة! الأنتيكات هي التي بتعدي 100 سنة، وأنا مش بشتغل فيها».

وبأسى باح لوسيان بأن لديه عقدة من الحديث مع الصحافة ووسائل الإعلام بعد تجربة مريرة مر بها على حد وصفه، حينما كتبت عنه إحدى الصحف المصرية في الماضي أن دكانه عثر فيه على قطع أنتيكات أثرية تقدر بنصف مليون جنيه، مما جعل الضرائب تطارده، ويضحك قائلا «ومن ساعتها الضرايب مسكتني وضربت الأرقام فوق خالص، وكان كله كلام بكش».

يرمق لوسيان بضاعته متمنيا أن يأتي من يثمنها، يتابع عبر واجهات المحل العتيقة حركة المارة في الشارع كشريان يجري فيه طوفان من البشر غير مبال بما على ضفتي الطريق من محال عتيدة. ويتنهد قائلا «النهارده نادر تلاقي زبون حقيقي، زمان كان فيه ناس بيفهموا ودلوقتي ما فيش حد بيفهم أو يهتم بالحاجات القديمة ديه، كان أصحاب المحلات اللي جنبي أرمن وجريك وطليان وكان كله أجانب كان جو مختلف خالص. كان فيه حركة بيع أكتر، لكن دلوقتي حركة البيع راحت سموحة وبقى هنا أي كلام!!».

يتابع لوسيان شريط ذكرياته: «كان زبايني بردوا فنانين تشكيليين كبار، وكنت ببيع اللوحات والكروت البوستال القديمة وكانت الناس بتدور على الحاجات دي وهي مهتمة ومقدرة الحاجة!».

يتذكر بصعوبة «المخرجة أسماء البكري صورت هنا أحد أفلامها، ومصطفى قمر وكتير بييجوا يصوروا علشان شكل المحل القديم».

ويضيف: «المحل مشهور بس مفيش زباين، المحل بقاله سنين طويلة، كتبوا عني في مجلة فرنساوي، والمحل موجود على الخريطة المرسومة في محطة الرمل زي دليل للإسكندرية. بس نعمل إيه الحال اتغير! بفكر أفتحه مطعم علشان الأكل هو اللي بينفع النهاردة».

يتابع لوسيان عمله مستمعا لراديو لندن أو متحدثا في الهاتف مع أحد أصدقائه القدامى، وعندما سألته عن أولاده قال «بلا أولاد بلا وجع دماغ، أنا مش متجوز، يعني الواحد يتجوز علشان واحدة تقوله رايح فين وجاي منين وبتكلم مين!!».

ويعتبر لوسيان السيدة راندا التي تعمل معه مثل ابنته، وهي التي تتعامل مع الزبائن وتلبي طلباتهم. وهو يقضي أوقاته في التسامر أحيانا مع بعض أصحاب المحال المجاورة، ورغم أنه مصري مثلهم فإنه من الحين للآخر يأتي أحدهم ملقيا عليه التحية «أزيك يا خواجة، كله كويس؟». وربما يرجع ذلك للهجته العربية المكسرة. عن طفولته يقول: «درست في كلية سان مارك بالشاطبي وتخرجت منها ودرست الفلسفة، كان المدرسون مصريين وفرنساويين، كان ممنوع نتكلم أي لغة غير الفرنساوي في المدرسة، وكانت مدرسة أولاد الأكابر».

يتباهى لوسيان أيضا بجذوره اللبنانية فيقول إن جذور عائلته من الجبل، وهو يتبادل مع باقي أفراد عائلته الزيارات سواء في لبنان أو الإسكندرية. ويقول زمان كانوا بيقولوا علينا شوام وكنا لبنانين وسوريين عايشين في مصر زي المصريين تمام.. لكن دلوقتي بيقولوا علينا خواجات!.

ومع دخول عدد من السائحين الأجانب يتأملون البضاعة بحثا عن شيء نادر يرضي شغفهم بالتراث المصري أو اصطياد هدية، يتذكر لوسيان الإسكندرية قائلا «عمر إسكندرية ما كانت زي البلاد التانية!! مش زي باريس أو لندن، أبدا، طبعها مختلف كان في أجيال من جميع الجنسيات، جريك وطلاينة ويهود وفرنساويين، لكن دلوقتي كلها انتهت.. اللي أدامي ده كان اسمه (يوسفيان) بتاع المجوهرات لكنه خلاص قفل من زمان. كانت الناس بتتكلم كل اللغات في الشارع». توافقه إيزيس شقيقته الكبرى، والتي تتحدث الفرنسية بطلاقة، قائلة «ما فيش حاجة حلوة دلوقتي» معتبرة أنه لا مجال للحديث عن الماضي فهو يؤلمها ويجلب لها التعاسة حينما تحضر صورته إلى جانب الحاضر البائس. وإيزيس التي أيضا أضربت عن الزواج مثل شقيقها لوسيان تأتي معه أحيانا لتؤنسه في محل عمله.

بعد لحظة صمت، قال لوسيان: «كان الشارع يوميا يتغسل بالميه والصابون وكان ممنوع يمشي في الشارع الناس بجلاليب، كان اللي يمشي في الشارع بجلابية كان العسكر يقولوا (يالا يا أستاذ مع السلامة شوفلك شارع تاني)». ويبرر لوسيان ذلك بقوله «علشان كانوا عايزين الشارع نضيف دلوقتي الشراع مش زي زمان خالص».

وعن ذكرياته مع شارع صلاح سالم، يقول «كان اسمه شارع شريف وكان أحسن شارع في البلد، كانت الستات والرجالة بتلبس أشيك وأحسن لبس، وكان كله لازم إما برانيط أو طرابيش»، «الحياة كانت مختلفة، كنت أحضر الأوبريتات وعروض البالية وفرق الرقص الأجنبي، كنت تلاقي مواعيد مكتوبة في كل حتة علشان الناس تعرف أنه في حفلة، اليومين دول بالصدفة لما أعدي ألاقي ورق متعلق، وتكون الحفلة خلصت، لكن أنا معدتش مهتم خلاص ما فيش فن زي زمان».

لا تنتهي حكايات لوسيان وينتظر بشغف هو وشقيقته زيارات بعض الأصدقاء والجيران، الذين يطلون عليهم من وقت لآخر يحملون معهم ذكريات حميمة.