متحف حاقل بلبنان للمتحجرات البحرية .. بعض أسماكه عمرها 98 مليون سنة

يعتبر الأول من نوعه في الشرق الأوسط

TT

في قرية صغيرة تابعة لقضاء جبيل بشمال محافظة جبل لبنان، ربما لم يزرها سوى قلة من اللبنانيين، يوجد أحد أهم المتاحف المتخصصة في أحافير الأسماك، أو المتحجّرات، التي تعود إلى فترات تاريخية سحيقة تزيد على 98 مليون سنة. إنها حاقل، تلك القرية الجبلية الوادعة التي ترتفع 750م عن سطح البحر، وفيها أسس أحد أبنائها متحفا للأحافير – أو المتحجرات – البحرية، يعد الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، واليوم يزخر هذا المتحف بالأحافير النادرة، ويشكل حقا قيمة تاريخية وعلمية ووطنية في آن واحد، كما أنه في نظر كثيرين خير دليل على وعي اللبناني بأهمية تراثه الطبيعي بموازاة التراث الثقافي بأبعاده كافة.

«متحف حاقل» الذي يحمل اسم القرية ذاته، ينقل إلى الزائر من خلال الأحافير البحرية النادرة التي تكونت نتيجة التغييرات الجيولوجية والمناخية في المنطقة، صورة علمية مثيرة لما كانت عليه الحياة البحرية قبل ملايين السنين، كما تشكل أحافيره دليلا وشاهدا يكاد يكون ناطقا على التطور البيولوجي للكائنات الحية المائية. ولقد استطاعت الأحافير البحرية الموجودة والموثقة في المتحف، جذب خبراء الآثار العالميين، ولا سيما من فرنسا وألمانيا وغيرهما، ليحصلـوا بوسائلهـم الخاصة على الأسماك التـي ذاعـت شهرتها فـي الموسوعة العلمية العالمية.

«الشرق الأوسط» زارت المتحف، وهناك التقت مديره روي نوهرا، وهو ابن صاحب المتحف رزق الله نوهرا، الذي تحدث إلينا في حوار خاص، فقال: «درست علم الآثار واكتسبت خبرة والدي، فأعطيت كل سمكة أهميتها من حيث الشكل والحجم، ولا سيما النادر منها أو المنقرض. واليوم، يضم المتحف أنواع متعددة من المتحجرات التي أفلحنا في استخراجها من بين ثنايا الصخور الموجودة في مقالع - أي محاجر أو كسّارات – حاقل، ولقد تطلب جمعها وتصنيفها سنوات طويلة من العمل قبل أن يغدو ممكنا عرضها، وكلها تمتاز بجودتها وصلابتها، وذلك بفضل تكوين الصخور ونوعية التربة والمناخ في لبنان». افتتح المتحف رسميا عام 1991، بمجهود خاص من رزق الله نوهرا (الأب)، الذي استطاع من خلاله تحقيق حلم ظل يراوده زمنا طويلا. أما مبنى المتحف فعمره نحو 150 سنة، وسقفه معقود وجدرانه عريضة ومجهز بواجهات زجاجية متباينة الأحجام والأشكال والارتفاع، تعرض على رفوفها الأسماك والنباتات البحرية المتحجرة.

والواقع أن عائلة نوهرا توارثت مهنة التنقيب عن المتحجّرات أو الأحافير البحرية من جيل إلى جيل في أرض تملكها بالمنطقة، بيد أن الاهتمام بهذه الثروة التاريخية الطبيعية ما كان جديا في بادئ الأمر، بل كانت عمليات البحث مجرد هواية لجمع تذكارات تزين بها البيوت. «الأمر تغير عندما جاء الفرنسيون إلى لبنان، إبان الحرب العالمية الثانية، وتحديدا إلى أرض العائلة، وأخذوا ينقبون عن الأحافير السمكية ويستخرجونها بوسائلهم الخاصة ويرسلونها إلى بلادهم، وهو ما أكسب حاقل شهرة في الموسوعات العلمية العالمية»، بحسب ما رواه لنا نوهرا نقلا عن جده.

وتابع روي: «آنذاك، لم يكن أبناء الضيعة (القرية) يعرفون قيمة هذه المكتشفات، إذ كانوا يضحكون عندما يشاهدون الجنود الفرنسيين وهم يكابدون عناء الذهاب إلى الجبل ويعودون حاملين الأحجار، بعد لفها بالقطن ومن ثم بالورق... وما علموا إلا متأخرين الأهمية العلمية لتلك الآثار المتحجرة. لكن عزاء العائلة أنها اختزنت خلال تلك الفترة الكثير من الآثار وحافظت عليها، وما زالت حتى اليوم تكشف بين يوم وآخر أصنافا جديدة من الأحافير السمكية أو الأسماك المتحجرة».

خلال التجول في أرجاء المتحف، تلفت الزائر مجموعة من النفائس من مختلف أنواع الأسماك، معظمها نادر الوجود، ولقد أضيفت إلى المعروضات بطاقات تضم معلومات علمية تشرح للزائر هوية القطع المعروضة. وفي هذا الصدد، أشار روي نوهرا، الحائز دراسات عليا في علم الآثار، إلى أن الأصناف التي تمت دراستها حتى الآن، والتي تحمل أسماء خاصة في المتحف، لا تتجاوز نسبتها الـ20% من محتوياته. ومنه علمنا أن متحف حاقل يحتوي راهنا على 300 نوع من الأسماك، بعضها انقرض، والبعض الآخر تطور من حيث الشكل فقط، الأمر الذي يعتبر ثروة علمية مهمة. أما الحصول على أنواع جديدة، فقد أصبح نادرا جدا بعد مضي سنوات طويلة على بدء التنقيب. كذلك، يضم المتحف اليوم أنواعا مهمة جدا وغريبة، وبحسب نوهرا، «كل نوع يكتشف للمرة الأولى، أو يكون نادرا، لا يباع بأي ثمن ولا حتى للمتاحف، ولدينا في متحف حاقل 10 قطع فريدة لا مثيل لها في العالم، علما بأن بعض الأنواع لم يعرض حتى الآن بسبب كثرة الأنواع والمكتشفات».

ومن ناحية أخرى، نوه نوهرا خلال حديثه إلى أن «الأسماء التي تطلق على المتحجرات أو الأحافير هي الأسماء العلمية اللاتينية، في حين أن الدراسة العلمية لكل قطعة تستغرق أكثر من سنتين لإنجازها. وبالمناسبة، لا تقتصر المكتشفات في مقالع حاقل على الأسماك، بل تشمل كل أصناف الحياة البحرية الحيوانية والنباتية، فعلى سبيل المثال، عثر على سمك القرش وأنواع مختلفة من القريدس (الربيان - الجمبري) والسرطانات والأفاعي والأعشاب البحرية».

ومن ثم، حسب نوهرا: «تعتبر حاقل أحد المواقع الثلاثة الكبرى في العالم التي اكتشفت فيها أسماك متحجرة، وبجانب لبنان عثر على أحافير ومتحجرات سمكية في كل من ألمانيا، حيث وصل عمر الأسماك المتحجرة المكتشفة فيها إلى ما يزيد عن 140 مليون سنة، وإيطاليا التي يعود عمر متحجراتها إلى 45 مليون سنة».