هل كان نقد ابن تيمية للفلسفة ضربا في ميت أم بحثا عن سند عقلي لإثبات العقائد؟!

TT

بعد سقوط بغداد بيد التتار عام 656 دخلت الفلسفة الاسلامية مرحلة النزع الاخير، ولم ينته القرن السابع الا قد غابت الفلسفة تماما عن المشهد الثقافي في العراق والشام ومصر.

ولد ابن تيمية بعد سقوط بغداد بخمس سنوات، فيكون ادرك الفلسفة في ايامها الاخيرة، حيث لا نجد في العصر الذي عاشه الا عددا قليلا من الفلاسفة اهمهم: نصير الدين الطوسي (ت672) وهو فيلسوف اسماعيلي تحول الى المذهب الامامي وخدم هولاكو. وابن سبعين (ت668) وهو فيلسوف صوفي من القائلين بوحدة الوجود. والعفيف التلمساني (ت690) وهو كذلك من الصوفيين القائلين بوحدة الوجود وصدر الدين القونوي (ت673) وهو تلميذ ابن عربي ومن القائلين بوحدة الوجود ايضا، وهؤلاء جميعا ماتوا قبل نهاية القرن.

وفي تلك الفترة نستطيع ان نجد بعض المتكلمين الذين لهم «اعتناء» بالفلسفة ودراسة كتب ابن سينا فقط، وهم من تلاميذ فخر الدين الرازي او من المتأثرين بطريقته الكلامية، مثل: شمس الدين الخسر وشاهي (ت652) وشمس الدين الاصفهاني (ت688) او ممن له معرفة بالمنطق من المتكلمين، بعد ان ادخل الغزالي مباحث المنطق الى كتب الكلام، ومن المناطقة المشهورين في ذلك العصر علاء الدين الباجي (ت714).

والملاحظ ان المشتغلين بالفلسفة في ذلك الوقت كانوا اما من الشيعة (بشتى طوائفهم باطنية او امامية)، واما من فلاسفة الصوفية، وقليل من المتكلمين الذين درسوا المنطق وقرأوا الفلسفة من منطلق كلامي وليس فلسفيا. ومما ساعد على «قلة المشتغلين بالفلسفة» هو ارتباطها بالمذاهب الشيعية والباطنية، وهذا ما دعا الى محاربتها من العلماء السنيين، كالغزالي والسهروردي (صاحب عوارف المعارف)، والسبكي والذهبي وغيرهم.

اما ابن تيمية فلم يشتغل بالفلسفة الا بعد موتها رسميا واختفائها من بلاد الشام ومصر والعراق وذلك بعد عام 710 تقريبا، حيث اقبل على قراءة كتب الفلاسفة بنهم شديد، ولم يفرق بين كتب فيلسوف وآخر، بل نكاد نجزم انه قرأ كل ما وقع تحت يده من كتب فلسفية، لكن ما سبب هذا الاهتمام المتأخر من ابن تيمية بالفلسفة بعد موتها؟

لم يقرأ ابن تيمية الفلسفة دارسا ومتعلما ولا باحثا فيها عن حقيقة، بل قرأها مجادلا مخاصما الا ان خصومته لم تكن مع الفلاسفة، بل كانت مع طوائف اخرى غيرهم، فابن تيمية دخل في صراع مع ثلاث طوائف، هي: الشيعة واهل الكلام والصوفية.

وفي دراسته لهذه الطوائف رأى ابن تيمية انها استمدت بعض اصولها من الفلسفة ووجد نفسه بحاجة الى سند «عقلي» يستعين به على اثبات العقائد السلفية، وقد لقي ضالته في كتب «فلاسفة الاسلام» فابن تيمية بدراسته للفلسفة يريد ترسيخ قاعدته المشهورة «العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح»، حيث يبين ان المتكلمين والصوفية والشيعة مخالفون لصحيح الفلسفة كما انهم مخالفون للنقل، وان علماء السلف موافقون للعقل كما انهم موافقون للنقل ويكون بهذا ابطل «الاساس» الذي بنت هذه الطوائف مذاهبها عليه.

وهناك سبب آخر، وهو سياسي يبين دوافع اعتناء ابن تيمية بالفلسفة، حيث يتهم ابن تيمية الباطنية ومتفلسفة الصوفية بتعاونهم مع «الكفار» ضد المسلمين ويرجع هذا الى اصول مذهبهم الفلسفي، حيث لا يفرقون بين دين وآخر.

* رأي ابن تيمية في الفلسفة

* شن ابن تيمية حربا ضروسا على الفلسفة والفلاسفة بشتى طوائفهم وعلى اختلاف مذاهبهم، فهو يرى ان الفلاسفة في مرتبة دون كفار اليهود والنصارى، بل يراهم اعظم ضلالا وجهلا من المجوس ومشركي العرب والهند وكثير من الصابئين، ويرى انهم يفسدون عقائد الناس، ولذا فانهم (كما يرى ابن تيمية) لا يظهرون الا في الدول الجاهلية ودول اهل الردة والنفاق، كدولة العبيديين (الفاطميين) والتتار.

فابن تيمية يرى ان الفلسفة مناقضة للشريعة، وانه لا يمكن الجمع بينهما. وهاجم الذين حاولوا الجمع بينهما، واتهمهم بانهم اتوا بمذهب متناقض، مخالف للدين ولصحيح الفلسفة، اي: مخالف للمنقول وللمعقول ولهذا السبب منع ابن تيمية من استعمال مصطلح «فلاسفة الاسلام» لان الاسلام ليس فيه فلسفة، ودعا الى استعمال مصطلح «الفلاسفة الذين كانوا في الاسلام» او «المنتسبين الى الاسلام» بدلا منه.

ومع هذا الهجوم الشديد ضد الفلسفة الا ان ابن تيمية بين انه لا يريد بنقده هذا الا مباحث «الالهيات» من الفلسفة، اما الطبيعيات والرياضيات، فهو يعترف بان غالب كلامهم فيها جيد، وانهم يقصدون الحق فيها، ويرى ان مذهب الفلاسفة في الطبيعيات والرياضيات خير من مذهب المتكلمين، وان مذهب المتكلمين في الالهيات خير من مذهب الفلاسفة، واخذ ابن تيمية على المتكلمين ردهم بعض الحق الذي جاء به الفلاسفة في باب الطبيعيات والرياضيات، وهذا الموقف نجد له جذورا عند الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة».

وقسم ابن تيمية الفلاسفة اقساما، اعطى لكل قسم منها حكما يختلف عن الآخر:

اول هذه الاقسام: هم الفلاسفة الذين كانوا قبل ارسطو: مثل سقراط وطاليس وغيرهما، حيث يحسن ابن تيمية الظن فيهم، ويرى انهم تعلموا الحكمة من اتباع الانبياء، وانهم كانوا يقرون بحدوث العالم، وبمعاد الابدان وان الصابئين منهم كانوا موحدين.

وهذا يدل على ان معرفة ابن تيمية بهؤلاء الفلاسفة ناقصة وغير دقيقة، فالابحاث الحديثة المتعلقة بهم تبين خطأ ما نقله ابن تيمية عنهم، لا سيما وابن تيمية لم يطلع اطلاعا مباشرا على ما كتبه هؤلاء الفلاسفة، بل اعتمد على ما نقله عنهم مؤرخو المقالات من المسلمين. والقسم الآخر من الفلاسفة الذين تكلم عليهم ابن تيمية هم: المشاؤون، اي ارسطو واتباعه، فابن تيمية يرى ان مذهب اكثر الاسلاميين الذين يذكرونه في كتبهم مثل الفارابي وابن سينا وابن باجه وابن رشد وغيرهم هو مذهب ارسطو، وينبه الى ان بعضهم مثل ابن سينا والسهروردي، له مذهبان، احدهما مذهب ارسطو والآخر ما يرجحه هو من اقوال.

اما تقويمه لمذهبهم في الالهيات، فيرى ابن تيمية انه ليس في الطوائف المعروفين اجهل من هؤلاء، ولا ابعد عن العلم بالله منهم، ويضيف «نعم، لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع ولهم عقول عرفوا بها ذلك، لكنهم جهال بالعلم الالهي الى الغاية، ليس عندهم منه الا قليل كثير الخطأ».

وابن تيمية يكفر اتباع ارسطو من «الاسلاميين» لمقالات كثيرة يقولون بها، منها: قدم العالم. ومنها: قولهم في النبوة، حيث ينقل عنهم انهم يرون ان للنبوة ثلاث خصائص، وهي: ان تكون للنبي قوة حدسية وقوة تخييلية وقوة نفسية، مما يبطل كونها من عند الله. ومنها: انكارهم لمعاد الابدان، فينقل ابن تيمية عن فلاسفة الاسلام انهم اختلفوا في معاد الابدان والنفوس على اقوال: انكار المعاد مطلقا او اثبات معاد النفوس العالمة دون الجاهلة او اثبات معاد النفوس جميعا دون الابدان وذكر ان هذه الاقوال جميعا منقولة عن الفارابي، وان منهم من يقول بالتناسخ، وهنا ملاحظتان على ما ذكره ابن تيمية: فالفارابي لم يقل بنفي المعاد مطلقا، وايضا اغفل ابن تيمية قول من قال باثبات معاد الابدان من الفلاسفة الاسلاميين، مثل الكندي وابن سينا في احد قوليه.

وقد عرض ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه لنقد ارسطو، واتهمه بانه من اجهل الناس برب العالمين، وبانه ساحر ووزير لملك ساحر هو الاسكندر المقدوني، ويبدو ان سبب هذه الاتهامات وغيرها من ابن تيمية هو معرفته الناقصة بارسطو، حيث لم يطلع على كتبه مباشرة، بل نقل مقالاته بواسطة كتب الملل والنحل، وما نقله فلاسفة الاسلام عن ارسطو.

وعرض ابن تيمية لنقد كثير من الفلاسفة الاسلاميين اتباع ارسطو مثل: ابن سينا وابن رشد ونصير الدين الطوسي وغيرهم.

والملاحظ على نقد ابن تيمية للفلاسفة المشائين اعتماده على الانتقاء فهو انتقائي ردوده من ردود الغزالي والشهرستاني عليهم ومن المتكلمين كالرازي والارموي وغيرهما ومن ردود بعضهم على بعض ولذا فردوده تكاد تخلو من الاصالة وتقتصر على «الترجيح» بين المختلفين، ولعل السبب في هذا هو ان دراسة ابن تيمية للفلسفة لم تكن دراسة مقصودة لذاتها، بل كانت دراسة هدفها الحجاج مع المخالفين.

اما القسم الثالث من الفلاسفة الذين تعرض لهم ابن تيمية، فهم: فلاسفة الصوفية، اي القائلون بوحدة الوجود، فقد اتهمهم ابن تيمية بانهم لم يأخذوا مذهبهم من كلام العلماء والشيوخ المشهورين عند الامة، الذين لهم لسان صدق، بل اخذوا عقيدتهم من الفلاسفة واخرجوها في قالب المكاشفة.

وابن تيمية يكفر هؤلاء المتفلسفة من الصوفية، لمقالات يقولون بها، منها:

قولهم بوحدة الوجود، حيث يذكر ابن تيمية انهم اخذوا قولهم هذا من الباطنية والقرامطة وامثالهم. ومنها: قولهم بتفضيل الولي على النبي، وقولهم بان اصحاب النار يتنعمون فيها وقولهم بوحدة الاديان، الا انه يبدو ان ابن تيمية لم يفهم جيدا مذهبهم في تفضيل الولي على النبي، فابن عربي وضح ان قول الصوفية بتفضيل الولي على النبي يريدون ذلك في شخص النبي، فالنبي من حيث هو ولي افضل من حيث هو نبي، لا ان الولي التابع له افضل منه. وقد هاجم ابن تيمية فلاسفة الصوفية بشدة قاسية، حيث كفر ابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وغيرهم.

اما القسم الرابع من الفلاسفة الذين عرض لهم ابن تيمية فهم الباطنية، حيث يرى انهم من المتفلسفة المنتسبين الى الاسلام، وان اصل دينهم مأخوذ من المجوس والصابئين، وانهم يتظاهرون بالتشيع وهم في الاصل ملاحدة. وهم عنده اشد في الكفر من الفلاسفة امثال الفارابي وابن سينا.

وكذلك نقد ابن تيمية المنطق، لكن ما يهمنا هنا هو بيان سبب نقده له، فابن تيمية نقد المنطق لانه وجد ان من اصول فساد قول المتكلمين والفلاسفة في الالهيات هو ما ذكروه في المنطق.

فمقصده من نقد المنطق هو نقد «الالهيات».

* أثر الفلسفة في ابن تيمية

* لا يمكن لاي شخص ان يتعمق في دراسة مذهب فكري او فلسفي دون ان يتأثر به من حيث يشعر او لا يشعر، ولا بد ان يستفيد من دراسته تلك.

فما الذي استفاده ابن تيمية من الفلسفة، وما الذي اخذ منها؟

هذا جانب مهم من جوانب ابن تيمية الفكرية، اغفله الدارسون، فلا نكاد نجد من دراسات في هذا الجانب الا دراسة عبد المجيد الصغير «مواقف رشدية عند ابن تيمية»، وبعض الاشارات عند باحثين وعلماء آخرين، مثل الشيخ محمد زاهد الكوثري ود. محمد علي ابو ريان.

ولا يمكن ان احيط (من حيث الكم او الكيف)، بما اخذ ابن تيمية من الفلاسفة، الا انني سأكتفي بالاشارة الى بعض الجوانب:

1 ـ ينقل ابن تيمية كلام الفلاسفة ليرد به على المتكلمين، كما في رد ابن رشد على الغزالية.

2 ـ ويرد ابن تيمية على المتكلمين، لا سيما المتأخرين منهم ببيان ان اصول مناهجهم في الاستدلال مأخوذة من مناهج الفلاسفة واقوالهم.

3 ـ يرى ابن تيمية ان تأويلات المتكلمين وابتداعهم هي التي مهدت الطريق للفلاسفة وتأويلاتهم، فيحتج بهذا على ابطال تأويلات المتكلمين.

4 ـ واستفاد ابن تيمية من رد بعض الفلاسفة على بعض، فاستفاد من ردود ابن رشد على ابن سينا وردود السهروردي على كثير من الفلاسفة وردود ابن ملكا على الفلاسفة وردود ابن سبعين على غيره.

فابن تيمية يأخذ من كلام الراد ليبطل به كلام المردود عليه، هذا في المسائل التي يكون الراد موافقا لابن تيمية فيها، اي ان ابن تيمية عندما يريد الرد على قول لأحد الفلاسفة يأخذ اي رد على هذا القول لأي فيلسوف آخر.

5 ـ اما من ناحية الاستفادة المباشرة، فقد استفاد ابن تيمية من كثير من الفلاسفة، ومنهم:

ـ ابن ملكا:

وهو اعظم الفلاسفة تأثيرا في ابن تيمية، ونجد تأثيره الكبير في استعانة ابن تيمية بكلامه في الرد على المتكلمين، في مسألة «حلول الحوادث» او «قيام الافعال الاختيارية بالله» ومسألة «العلم الالهي».

وقد استفاد منه ايضا في نقده للمنطق، في مسألة نقد «فكرة الحد عند ارسطو»، كما استفاد منه في مسألة «الاقيسة الشرطية».

ـ ابن رشد:

وقد استفاد منه ابن تيمية كثيرا، لا سيما في رده على ابن سينا، وفي رده على المتكلمين، وبخاصة ابطال قاعدتهم في «قياس الغائب على الشاهد» وكذلك في ابطال استدلالهم على وجود الله، عز وجل، بدليل حدوث الاعراض وغير ذلك كثير من المسائل.

والفلاسفة الذين استفاد منهم ابن تيمية كثير، تحتاج دراستهم الى وقت طويل، ومكان ليس هذا محله.

وينبغي الاشارة الى ان «الجزم» بتأثير فيلسوف معين على بن تيمية في مسألة معينة امر يحتاج الى الدقة وعدم التسرع، فمجرد التشابه لا يعني ان ابن تيمية نقل ذلك القول من ذلك الفيلسوف، بل لا بد من شواهد اخرى تورث اليقين او الظن الغالب بذلك الرأي.

6 ـ واستفاد ابن تيمية من الفلاسفة في الرد على المتكلمين في ابطالهم «التسلسل في الماضي» او ما يعرف بـ «حوادث لا اول لها»، وذلك في تفريقه بين قدم الآحاد وقدم النوع.

7 ـ ولما كان ابن تيمية في معرض الجدال مع الفلاسفة والمتكلمين، فقد استعمل الفاظهم ومصطلحاتهم، وهذا ما لم يفعله السلف، ولذا فقد وضع قاعدته المشهورة وهي: «مخاطبة اهل الاصطلاح باصطلاحهم»، حيث يقول: «واما مخاطبة اهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه، اذا احتيج الى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وانما كرهه الأئمة اذا لم يحتج اليه».

* كاتب وباحث سعودي