قال لي الجنرال أوفقير: لا تضع رأسك بين فكي الذئب لا تنتحر وانتظر فالبلاد في حاجة إليك عما قريب

TT

بورقبية كان يرى أن الجزائر لا تؤمن بالمغرب الكبير بل بالجزائر الكبرى

* الملك فيصل كان متعدد الأبعاد وكان أيضا رجل الحلول الوسطى * الرئيس بومدين دعا المغرب وموريتانيا خلال القمة الإسلامية في الرباط، إلى العمل على استرجاع الصحراء من اسبانيا * ذهبت إلى لقاء تلمسان بين الحسن الثاني وبومدين ولم اكن اعرف ما هو الاتجاه الذي يراد أن يسير فيه المغرب * قلت للوزير بوتفليقة «عار عليكم ان تحاكمونا ونحن ضيوف عندكم» * قال الحسن الثاني ان لقاء تلمسان لم يكن من ميدان السياسة الخارجية ولكن من ميدان السياسة العائلية

* قدمت استقالتي من وزارة الخارجية للملك فقال لي اوفقير «برافو عليك انت شجاع وبطل» فدقت هذه الكلمة في اذني مثل الصاعقة * فتح أوفقير سيرة الملك وقال عنه أشياء كثيرة ونسب له مساوئ شتى الشيء الذي أثار استغرابي ودهشتي في هذه الحلقة من حوارات «نصف قرن تحت مجهر السياسة» يروي عبد الهادي بوطالب السياسي المغربي المخضرم تفاصيل قمة تلمسان التي جرت عام 1970 بين الملك الحسن الثاني والرئيس هواري بومدين. كما يروي الاسباب التي دفعته الى تقديم استقالته من وزارة الخارجية.

وتحدث بوطالب ايضا عن نظرة الشك والريبة التي اصبح ينظر بها الى اوفقير. كما تحدث عن قمة نواذيبو التي جمعت قادة المغرب وموريتانيا والجزائر، واول اجتماع لوزراء خارجية منظمة المؤتمر الاسلامي في جدة، بالاضافة الى طبيعة علاقته بالملك الراحل فيصل بن عبد العزيز.

* عندما كنتَ وزيرا للخارجية عُقِدت قمة تلمسان بين الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري هواري بومدين. فهل لك أن تحدثني عن ظروف انعقادها والجديد الذي جاءت به القمة؟

ـ في بداية السبعينات أخذ سير المغرب العربي يتعثر إذ كانت الجزائر توجهت في نظامها الاقتصادي وجهة اشتراكية صلبة مخالفة لتوجهات المغرب وتونس الليبرالية. وكانت موجة هذا التوجه تغمر جزءا من قارة أفريقيا وأطرافا من دول عدم الانحياز والعالم الثالث. ويقوم هذا الاتجاه على هيمنة الدولة على الاقتصاد الموجَّه، فبرز بذلك تعارض المصالح بين الأقطار المغربية العاملة في اللجنة الاستشارية الدائمة للمغرب العربي. وتفاقم هذا التباين عندما خططت الجزائر لإنشاء مركبات صناعية ضخمة يتجاوز إنتاجها متطلبات استهلاكها الداخلي إلى تسويقه عبر أسواق عالمية. وكان من بينها مركب صنع الحديد والفولاذ الذي أُنشئت له وزارة خاصة باسم وزارة الصناعة والحديد والفولاذ التي تولاها عبد السلام بلعيد الذي عُرِف بنعت «الاشتراكي القوي». ولم يُخْفِ الوزير بلعيد أن الجزائر تتوخى من إنشاء هذه الصناعات الثقيلة منافسة دول أوروبا وأميركا في تصديرها إلى الأسواق العالمية وفي طليعتها أسواق المغرب العربي. وأنه من أجل ذلك ترى الجزائر ـ في نطاق التنسيق المشترك أن يُتْرَك لها الاستثمار في مجال التصنيع على أن يبقى للمغرب وتونس الإنتاج الفلاحي. وكانت الجزائر في هذه الفترة تعتبر نفسها مؤهَّلة بقيادة العقيد هواري بومدين لقيادة العالم الثالث ودول عدم الانحياز، خاصة عندما غابت عن تجمع عدم الانحياز رموزه القيادية المؤَسِّسة: عبد الناصر وسوكارنو ونهرو وتيتو، وبعد أن خرجت ليبيا من المغرب العربي بعد ثورة الفاتح من سبتمبر وأخذ العقيد القذافي زمام الحكم وحوَّل قبلته من المغرب العربي إلى المشرق العربي تطلعا لتحقيق الوحدة العربية التي ظل شغوفا بها.

وكما حوَّل القذافي قبلته غيَّر بومدين توجهه فصارح وزراء الاقتصاد الوطني المغاربيين في آخر اجتماع عقدوه بالجزائر أن بلاده تؤمن بوحدة شعوب المغرب العربي لا بوحدة دوله. وكان آخر اجتماع للمجلس الوزاري للمغرب العربي هو المؤتمر السابع الذي تفرق دون أن يُصدِر بيانا يُتفَق فيه على إمضاء بروتوكول وفاق. ولم يكن هذا الاتفاق ممكنا في الجو المشحون بتعارضات المصالح وتباينات النظم وظهور نزعة الهيمنة على المغرب العربي من طرف واحد. وفي ذلك قال الرئيس بورقيبة الذي كان يتحدث بالصراحة وينطق بالحكمة عن سبب تعثر عمل المغرب العربي: «إن الجزائر لا تؤمن بالمغرب الكبير بل بالجزائر الكبرى».

وفي بداية السبعينات أيضا ارتدَّت الجزائر ببصرها إلى المغرب عارضة عليه إقامة علاقات تعاون ثنائي ربما تعويضا أو بديلا عن علاقاتها مع المغرب العربي، وألحَّت على استعدادها لتوثيق روابط التعاون الثنائي خاصة بعد انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي الأول في الرباط عام 1969، الذي تلاه مؤتمر القمة العربية الذي انعقد هو أيضا بالرباط وقد حضرهما معا الرئيس بومدين وصرح في القمة العربية أن الجزائر غير معنية بالصحراء المغربية، وبارك في القمة الإسلامية الأولى اعتراف المغرب بموريتانيا دولة مستقلة. ودعا المغرب وموريتانيا إلى العمل على استرجاع الصحراء من إسبانيا فأعطى بكل ذلك ضمانات للمغرب وتركه يفهم أن لاءاته التي كانت تتكرر من وزير الصناعة الجزائري (في المجلس الوزاري للمغرب العربي لمعارضة المشاريع التي كانت تقرها اللجنة الاستشارية) ليست موجهة ضد المغرب ولكن إنما كانت مستجيبة إلى أن الجزائر تفضل التعاون الثنائي مباشرة مع المغرب وترغب فيه صادقة.

وفي نطاق هذا التوجه عرض الرئيس بومدين على الملك الحسن الثاني عقد اجتماع بينهما لتجاوز مشكلة الحدود الشرقية وحلها عبر توجه عقلاني وتعاون اقتصادي موثَّق يجعل من مشكلة الحدود قضية متجاوَزة أو شأنا غير ذي موضوع. وكانت هذه الاتصالات تجري مباشرة خارج قنوات الدبلوماسية الثنائية. وعندما أصبحتُ وزيرا للخارجية لم أجد في وزارة الخارجية ما يؤكد هذه الاتصالات ولم يكن لسلفي في الوزارة الدكتور أحمد العراقي أي علم بذلك.

ويوم 7 مايو (آيار) 1970 توجه الملك الحسن الثاني والوفد المرافق له من وجدة إلى تلمسان للاجتماع مع الرئيس الجزائري على رأس وفد ضخم يتصدره إدريس السلاوي المدير العام للديوان الملكي، والأمير مولاي الحسن بن إدريس، وأحمد العراقي الوزير الأول، وعبد الهادي بوطالب وزير الخارجية، والحاج مَحمد باحنيني وزير العدل والأمين العام للحكومة، والجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية، وعبد الكريم الأزرق وزير المالية وعدد آخر من الوزراء. ولم يكن مع الرئيس بومدين إلا أربعة وزراء أذكر من بينهم عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية وميلود بلقاسم وزير الشؤون الإسلامية.

وبصفتي وزيرا للخارجية لم أحمل معي أي ملف إلى تلمسان، ولم أكن أعرف ما هو الاتجاه الذي يراد أن يسير فيه المغرب.

وبتلمسان جرت المحادثات بين القائدين على انفراد على مائدة غداء، ثم تناولا القهوة على انفراد كذلك. وبعد ذلك نودي على الوزير بوتفليقة. ثم نادى الجنرال مولاي حفيظ العلوي وزير القصور الملكية والتشريفات والأوسمة على إدريس السلاوي المدير العام للديوان الملكي وأحمد العراقي الوزير الأول للدخول إلى القاعة التي يوجد فيها الملك الحسن الثاني والرئيس بومدين ولم يُنادَ عليّ. وغضبتُ غضبا شديدا، وألفيت نفسي أدخن سيجارا كوبيا تناولتُه بعد الغداء فقد كنتُ مدمنا آنذاك على تدخين السيجار لكنني توقفت عن تدخينه منذ 20 سنة. وبعد دقائق معدودات وقع التدارك ونودي عليَّ. ولا زلت أذْكُر أنني دخلت القاعة التي يوجد فيها الملك والرئيس وأنا غاضب منفعل والسيجار في يدي. وأخذ الملك الحسن الثاني ينظر إلى السيجار، إذ لم يسبق لي أن تعاملت معه بهذا الشكل، وقال لي: «لقد اتفقنا على أشياء كثيرة فأرجو أن تحرر أنت والسيد بوتفليقة بلاغا بشأنها». فقلت للملك الحسن الثاني بمحضر الرئيس بومدين وبوتفليقة والسلاوي والعراقي: «أنا أجهل ما اتفقتم عليه فكيف أحرر البلاغ؟». فأدرك الملك أنني غاضب وقال: «سيبلغك السلاوي والعراقي بما اتفقنا عليه» ورُفعت الجلسة. وصعد الملك الحسن الثاني إلى الطابق الأعلى حيث أُعِدَّت له غرفة لاستراحة القيلولة، فانفجرتُ غيظا رغم أن السلاوي والعراقي أرادا أن يُطلِعاني على ما قاله لهما الملك باختصار، لأنهما لم يمكثا في القاعة التي كان يوجد فيها الملك والرئيس الجزائري سوى 10 دقائق قبل أن يُنادَى عليَّ.

بعد ذلك نادى الملك الحسن الثاني على إدريس السلاوي وقال له رأيت بوطالب منفعلا. خَبّره أنه عندما دخلتُ أنا والرئيس بومدين نادى هو على الوزير بوتفليقة وأنا اضطُرِرت أن أتقيد بالبروتوكول وناديت على اثنين فقط من وزرائي. وترددت أن يكون معي ثلاثة أشخاص بينما هو معه شخص واحد. ولهذا غفلت عن بوطالب فأرجو أن تعتذر له وأن تخبره بأن ذلك لم يكن مقصودا وأن ثقتي فيه كاملة، وأخبره بما اتفقنا عليه. فقلت للسلاوي والعراقي: «عندما نادى الرئيس الجزائري على وزير خارجيته كان ينبغي للملك أن ينادي هو أيضا على وزير خارجيته وأنا الذي كان ينبغي أن أخبركما بما تم الاتفاق عليه لا العكس». فقال لي السلاوي : «على كل حال يظهر أن الجزائر أعدت مشروع بيان. وأنت الذي ستترأس الجلسة مع نظيرك بوتفليقة. ونحن سنحضر كشهود أو أعضاء. هذا ما أمر به جلالة الملك».

إثر ذلك دُعينا إلى الاجتماع الموسَّع الذي انعقد على صعيد الوزراء لتحرير نص البيان النهائي الذي لم أكن أتوفر على عناصر المساهمة في تحريره. وكم كنت مندهشا عندما أخرج نظيري في الخارجية الجزائرية عبد العزيز بوتفليقة من جيبه مشروع البيان الذي كان يُدين بكيفية مغلّفة ولكن واضحة موقف المغرب من مشكلة الحدود، و«يهنئ المغرب والجزائر بدخولهما في مرحلة النضج الذي مكنهما من تجاوز مرحلة الجمود إلى حل المشكلة المغربية ـ الجزائرية بالعقلانية المترشِّدة والتفاهم المثمر». أي أننا ـ نحن المغاربة ـ اجتزنا مرحلة اللاعقلانية المتمثلة في التشبث بترابنا الوطني إلى أن وصلنا إلى مرحلة التفتح مع تناسي الماضي. وتركتُ بوتفليقة حتى انتهى من قراءة مشروع البيان وتوجهت بالسؤال التالي إلى السلاوي والعراقي قائلا: «أعلى هذا اتفق رئيسا الدولتين؟».

* هل سمع الحضور ما قلتَه للسلاوي والعراقي؟

ـ نعم. الجميع سمعوا ما قلته لهما. فنظرا إليّ وهما في حالة ارتباك. فوجهت كلامي إلى بوتفليقة قائلا: «آسف أيها الأخ العزيز. إن مشروع البيان الذي أعددتموه خال من كل لباقة دبلوماسية. وعار عليكم أن تحاكمونا ونحن ضيوف عندكم». فقال بوتفليقة: «هذا مجرد مشروع بيان، غَـيِّرْ ما تشاء فيه». فقلت له: «أنا أرفض هذا المشروع جملة وتفصيلا». فقال بوتفليقة «اكتب غيره» فكان جوابي «لا» وانسحبت من القاعة محتجا ليس فقط على التصرف الجزائري غير المقبول وغير اللائق (ذلك أنه إذا كنا نسينا الماضي فلْنتناسَ كل ما يتعلق به في البيان الختامي ولْنكتفِ بالتنصيص على ما اتفقنا عليه دون أن نحاكم الماضي أو نقول إنه وقع تغيير في العقليات وأصبحت نظرتنا عقلانية وواقعية للأشياء). ولكن أيضا لأني لم يُعطَ لي كوزير مسؤول دوري في المفاوضات قبل لقاء تلمسان الذي قال عنه الملك الحسن الثاني في خطاب العرش ليوم 3 مارس (آذار) 1971: «إن لقاء تلمسان لم يكن من ميدان السياسة الخارجية ولكن من ميدان السياسة العائلية» يريد ان يقول أنه كان مجالا اختصَّ بالنظر فيه الرئيسان وحدهما وجرى في جو ودي حميمي.

وبعد انسحابي انسحب بوتفليقة أيضا. وعُهد إلى الحاج محمد باحنيني عن المغرب وميلود بلقاسم عن الجزائر بتحرير بيان مشترك.

انسحبتُ من الاجتماع لكني بقيتُ في نفس المكان الذي عُقد فيه الاجتماع. ثم جاء لرئاسة الاجتماع الختامي الملك الحسن الثاني والرئيس بومدين فلم آخذ مكاني في الاجتماع والتقط المصورون الصور ولم أظهر فيها.

وبعد ذلك غادر موكب الملك والرئيس باتجاه الحدود المغربية ـ الجزائرية حيث ودع الرئيس بومدين الملك الحسن الثاني والوفد المرافق له. وكان الليل قد بدأ يُرخي سدوله. وعندما وصل الملك الى وجدة علم أنني انسحبت من الاجتماع، فبعث إليَّ للحضور بمقر إقامته وأجبت على أسئلته قائلا: «يا جلالة الملك أنا لم أعرف وقائع ما جرى في لقاء تلمسان. وفي وزارة الخارجية لا يوجد لدينا أي ملف حول تسوية مشكلة الحدود مع الجزائر، ولم أُخْبَر قبل السفر إلى تلمسان بشيء. ولما جاء وقت القرار تم استدعاء وزيرين لم يكن من بينهما الوزير المختص بالخارجية، وإنما استُدعي المدير العام للديوان الملكي والوزير الأول. وهما وإن كانا من حيث البروتوكول (المراسم) أكبر رتبةً ولكن من حيث الاختصاص أنا صاحب الاختصاص». فقال: «هذا شيء لم يقع فيه كلام لا مع إدريس السلاوي ولا مع أحمد العراقي. هذا شيء أنضجناه لمدة طويلة باتصالات خاصة بيني وبين الرئيس بومدين».

وكنت عقب انسحابي من الاجتماع قد كتبت استقالتي بخط اليد، فكان لقائي به في مقر إقامته بوجدة مناسبة لأقدمها له. فقال: «أنا أرفض هذه الاستقالة. ولا تُعطِ لما وقع في تلمسان أهمية أكثر مما يستحق ولا علاقة له بشخصك وبثقتي فيك. فالأمور عولجت في الأعلى ولم يشتغل فيها لا وزراء بومدين ولا وزرائي أنا». وقال لي بهذه العبارة: «غدا إن شاء الله أبعثك إلى صديقك الذي يطمئن إليك وتحسن التفاهم معه إلى الرئيس الحبيب بورقيبة الذي أريد أن تطلعه على ما فعلناه، لأنه أول من يجب أن يعرف قبل أن يصبح الموضوع ضمن تعاليق الصحافة». فقلت له: «يا مولاي إنني لا أعرف ما فعلتماه. فكيف يمكن أن أذهب إلى مهمة لأخبر الرئيس بورقيبة بما لا أعرفه».

* هل أطلعك الملك الحسن الثاني آنذاك على فحوى الاتفاق مع الجزائر؟

ـ نعم. قال لي إن الاتفاق مع الجزائر تضمن شِقَّين: هما تسليم المغرب للجزائر التراب المختلَف عليه، وقيام الطرفين بوضع معالم حجرية على الحدود القائمة بما يجعل من التراب المغربي ترابا جزائريا. ومن جهة أخرى تم الاتفاق على إقامة شراكة ثنائية مغربية ـ جزائرية في منجم غارة جْبِيلات الواقع فيما كان يسمى التراب المغربي يتم تقاسم إنتاجه مناصفة بين البلدين على أن يؤمِّن المغربُ للجزائر المرورَ عبر سكة حديدية لإفراغ إنتاج المنجم في ميناء مغربي على المحيط الأطلسي لتصديره وتسويقه.

وأود أن أشير هنا إلى أنه أثناء اللقاء اللَّيلي الذي أطلعني فيه الملك على فحوى الاتفاق مع الجزائر كان الجنرال محمد أوفقير حاضرا معنا وتابع الحديث الدائر بيني وبين جلالة الملك. وسمعه يقول لي: «أنا أرفض الاستقالة وأرجو أن تقوم بالمهمة لدى الرئيس بورقيبة». فقلت له: «أرجو من جلالتكم أن تفكروا وتنصفوني بقبول استقالتي». أذن لنا الملك بالانصراف وخرجنا الجنرال أوفقير وأنا. ومن هنا كانت البداية لقصة طويلة ذات فصول. لقد ضغط أوفقير على يدي وقال لي: «برافو عليك، أنت شجاع وبطل». ودقت هذه الكلمة في أذني مثل الصاعقة. فأوفقير يُشيد بي وأنا في الموقف الحرج ويقول: «أنت بطل». توقفتُ عند هذه الكلمة وتوجهتُ إلى البيت الذي كنتُ مقيما فيه بوجدة لأنام وكان قد خُصِّص لكل وزير بيت لقضاء الليلة.

وفي صباح اليوم التالي ذهبتُ إلى مطار وجدة لتوديع الملك الحسن الثاني الذي أُعِدَّتْ له طائرة خاصة لنقله إلى الرباط صحبة أفراد عائلته. فنادى عليَّ الملك قبل امتطاء الطائرة ليؤكد لي رفضه استقالتي وليُلحَّ عليَّ في السفر إلى تونس فاعتذرت عن القيام بالمهمة ونادى الملك على الجنرال أوفقير الذي كان قريبا منا وقال له: «السِّي بوطالب مصر على الاستقالة وغير مُستعِد للقيام بالمهمة التي كلفته بها لدى الرئيس التونسي فمن تَرى أن نبعث بَدَله إلى تونس؟» فاقترح الجنرال اسم مولاي أحمد العلوي ووافق الملك. ثم التفت الملك إليَّ: «لا تقل إنك مستقيل فأنا لن أقبل استقالتك».

وعندما حلقت طائرة الملك الحسن الثاني في الجو إذا باليد التي ضغطت عليَّ أمس ليقول لي صاحبها «برافو عليك» تضغط عليَّ مرة أخرى في المطار. وقال لي أوفقير: «لي طائرة خاصة (ميستير 15) سيرافقني فيها إدريس السلاوي وأحمد العراقي، فأرجو أن تكون رابعنا لنعود إلى الرباط. فهل لك مانع؟» قلت: «لا مانع. وشكرته».

وحلَّقت بنا الطائرة وجلس أوفقير إلى جانبي وانحنى عليَّ هامسا في أذني: «هل أطمع في تناول الغداء معك في منزلك؟» فرحبتُ به. وكان أوفقير يتحدث إليَّ خافض الصوت وساعد أزيز محرك الطائرة على بقاء همسه إليّ غير مسموع من السلاوي والعراقي اللذين كانا يقتعدان مقعدهما مقابلنا.

ولما وصلنا إلى الرباط أسرعتُ إلى البيت لأعِد له الغداء. فقالت لي زوجتي: «الساعة الآن الثانية عشرة ونصف وتقول لي إن أوفقير قادم للغداء» فقلت لها: «هيئي الطعام ولكِ متسع من الوقت. فأوفقير لن يتغدى قبل الساعة الثانية والنصف أو الثالثة». وأضفت: «إنه لن يتناول الغداء إلا بعد أن يكون قد أخذ نصيبا وافرا من الكحول كعادته. وأحضرت له قنِّينة ويسكي من نوع «تشيفاس» لم يُقَضَّ ختامُها. وحينما وصل أوفقير إلى منزلي أشاد من جديد بموقفي البطولي وبصراحتي». وقال لي إنه كان يسمع الكثير عني وعن رجولتي إلى أن شاهد بنفسه ورأى. وأضاف: «هكذا ينبغي أن يكون الرجال». واستطرد وأطال في الإشادة والتنويه. وبعد هنيهة فتح أوفقير سيرة الملك وقال عنه أشياء كثيرة ونسب له مساوئ شتى الشيء الذي أثار استغرابي ودهشتي. وكان كلما احتسى كأسا جديدة زاد كلامه فجاجة وانتقاداته حدة. وقال لي: «إن هذا النظام لا بد أن يغير أحواله وأوضاعه، ولا يمكنه أن يظل هكذا على ما هو عليه». فبدرت مني بادرة وقلت له: «نحن جميعا أنا وأنت وعدد من الزملاء مخلصون لهذا النظام وأوفياء لهذا الرجل (أي الملك). فما رأيك أن أقترح عليك اقتراحا نتفق بمقتضاه أنا وأنت على إعداد قائمة تضم الوزراء الذين يحظون بثقة جلالة الملك وبمحبته ومودته، ونسطر ما ينتقده ويقوله الجميع من هنا وهناك، وتأذنون لي بأن أتكلم باسمكم، نظرا لأني أعرف كيف أتحدث إليه بالأسلوب الذي لا يُحرجه ولا يُثير غضبه. والملك يطمئن إلى كلامي أكثر مما يطمئن إلى الآخرين كما تعلم.سأحيطه بمحضركم علما باقتراحات الإصلاح وتقويم الوضع. وقبل أن أتكلم قولوا له إنكم متفقون على ما سأقول وأني ناطق باسمكم جميعا. وهكذا نبلغه الرسالة وننقذ النظام. فما رأيك في هذا الاقتراح ؟».

سكت أوفقير ثم اقترب مني ورَبَت على كتفي وقال لي بالفرنسية: «لا تضع رأسك بين فكَّي الذئب. لا تنتحِرْ. وانتظِرْ. والبلاد في حاجة إليك عما قريب». حينما سمعت هذه الكلمات أوقفت الحديث معه لأني أصبت بزلزال وذهبت إلى زوجتي طالبا منها تقديم الغداء. وأثناء الغداء قال لي أوفقير: «أنصحك أن تسحب استقالتك وأن تقبل القيام بالمهمة التي كُلّفتَ بها. ودعني أكلم الملك بالهاتف لأخبره بأنني أقنعتك بسحب الاستقالة وقبول المهمة فسيُسعِده ذلك». ووافقت على ما قال أوفقير، فطلب الملك بالهاتف بمحضري وأخبره أنه حضر إلى بيتي ليقنعني وأنه يتناول عندي الغداء وأن المشكلة سُوِّيت وأضاف: «ها هو السيد بوطالب بجانبي يرغب في أن تسمع جلالتكم منه سحبَ استقالته واستعداده لتنفيذ تعليماتكم بالقيام بالمهمة لدى الرئيس التونسي». وكان الأمر كذلك.

منذ ذلك لم تفتأ كلمات أوفقير تتردد على أسماعي وتؤَرِّقُني، وظلِلْتُ أتساءل: «ماذا يكون الهدف منها ؟» وأصبحت أعيش داخل الحكومة في جو الريبة والحذر والتوقع. وهو جو لا يساعد على أداء العمل الحكومي باطمئنان. ومنذ ذلك اليوم وأنا أُصخي بأذني إلى ما قد تلتقطه عن سر أوفقير المكنون،دون أن أفضي لأحد بما سمعته منه.

* حينما ذهبت الى تونس، كيف تلقى الرئيس بورقيبة الاتفاق المغربي ـ الجزائري في تلمسان؟

ـ بارك الرئيس هذه الخطوة وهنأ نفسه والمغرب العربي بالآفاق التي يفتحها الاتفاق المغربي ـ الجزائري لازدهار المغرب العربي وتقدمه.

* وكيف تلقى الرئيس بومدين كلام الملك الحسن الثاني في مؤتمر القمة العربية حول مبادرته لتحرير الصحراء دون استشارته أحدا؟

ـ لم يعلق الرئيس الجزائري وبدا عليه الارتياح لما قاله الملك لأن تسوية مشكلة الحدود بين المغرب والجزائر كان قد تم التوصل بشأنها في قمة تلمسان ودخلت معها العلاقات المغربية ـ الجزائرية شهور العسل.

* وما هي الظروف والمراحل التي مر بها تنفيذ اتفاق تلمسان؟

ـ بعد عودتي من تونس عهد إليَّ الملك الحسن الثاني بمتابعة الملف مع نظيري الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. وقال لي: «عجل بهذا الموضوع حتى يدخل موضوع الاتفاق حول منجم غارة جبيلات حيِّز التطبيق». فأخذت ألاحق بوتفليقة هاتفيا لعقد اجتماع بيني وبينه في المغرب أو في الجزائر. وظللت أنتظر إلى أن واتت فرصة عقد مجلس وزراء خارجية منظمة الوحدة الأفريقية وقمتها في لوساكا بزامبيا. وبما أن الملك الحسن الثاني أنابني عنه لتمثيله في القمة الأفريقية مثلما فعل الرئيس بومدين مع وزيره في الخارجية فقد اتصلت بالسيد بوتفليقة ـ بتعليمات من الملك الحسن الثاني ـ هاتفيا لأعرض عليه مرافقتنا على خط جوي واحد من باريس إلى لوساكا لتكون لنا فرصة هادئة للنظر في الملف طول أمد الرحلة وبعيدا عن أشغال القمة الأفريقية. فوافق بوتفليقة قائلا: «لا مانع لدي وأنا عادة أنزل في باريس بفندق كريون. فما رأيك أن نلتقي هناك ليلة سفرنا إلى لوساكا ؟». وقلت له: «أعطني رقم خط الرحلة الذي حجزت عليه من باريس إلى لوساكا» فأعطاه لي. وأعددت تذكرة سفري طبقا لذلك.

وصلت مساء إلى الفندق الذي ينزل فيه بوتفليقة قبل الموعد المضروب وأنا متأكد أننا سنقضي فترة طويلة من الليل للتباحث حول موضوعنا. ولكن عندما توجهت إلى الغرفة وجدت تحت الباب بطاقة اعتذار مكتوبة بخط اليد من الوزير بوتفليقة لارتباطات طارئة. على كل حال لم أعلق على ذلك ولم أعطه أية أهمية. وفي الصباح الباكر كلمت الوزير بوتفليقة حتى نتوجه سوية إلى المطار. وبعد صعودنا إلى الطائرة قال لي: «لا أستطيع أن أتحمل عناء الطائرة إنها تزعجني دائما وأقاوم عادة هاجس الخوف بتناول بعض المسكنات، وأنه لن يتناول غداءه، وأن أمامنا متسعا من الوقت خلال اجتماع المجلس الوزاري والقمة في لوساكا». وتناول بوتفليقة المسكِّنات التي كانت معه فلم يلبث أن أغمض عينيه ولم يستيقظ إلا عندما دخلنا أجواء لوساكا.

وفي لوساكا انهمكنا في أشغال المؤتمر. ومر اليوم الأول واليوم الثاني دون أن يكلمني أو أكلمه في الموضوع، إلا أنني في اليوم الثالث ألححت عليه في عقد اجتماع في ما بيننا. وقلت له: «هذا أمر جدي وأنا أتيت إلى هنا من أجل المؤتمر وأيضا لنطرح الموضوع بيننا فما الذي يجعلك لا تُلحُّ عليَّ كما أُلـحّ عليك في أن نجتمع. هل هناك شيء ؟». فقال بوتفليقة: «لا لا شيء، لنتناول الغداء في غرفتك على انفراد». وفاجأني بقوله: «كيف تفهمون في المغرب محتوى الاتفاق على شراكتنا في منجم غارة جبيلات؟». فقلت: «نفهمه كما قيل عنه (بصيغة المجهول) أن ما ينتج من منجم غارة جبيلات تسوِّقونه أنتم عن طريق سكة حديدية عبر المغرب باتجاه ميناء مغربي يقع على المحيط الأطلسي، ويُقْسَم رَيْعه مناصفة بيننا». فكان تعليقه: «الأمر كذلك. لكن كيف تفهمونه ؟». فقلت له: «الكلام واضح بما لا يقبل أية إضافة فكيف تفهمون أنتم ذلك ؟ هل لكم فهم آخر ؟». فقال: «نفهم أننا اتفقنا أوَّلاً على أن التراب الذي يقع فيه المنجم هو تراب جزائري». قلت له: «ومِن بَعد ؟» فأضاف: «وأيضا على أن نتقاسم مناصفة ما يفضل عن حاجات الجزائر الذاتية وحاجاتها للتصدير والتسويق». فسألته «ومتى تتوقف حاجاتكم عن المزيد ؟» إذ معنى ما قلتَه أن الاتفاق لن ينفذ قط». فقال «لا تعط الموضوع كل هذه الأهمية، فنحن على استعداد لتنفيذه لكننا أحق الناس بمنجمنا وبعد ذلك نتقاسم مناصفة». قلت له: «أهكذا تفهم أنت الاتفاق ؟» فكان جوابه: «هذا ليس فهمي، بل هذا موقف الجزائر: موقف الرئيس بومدين وموقف جبهة التحرير الجزائرية. وبلِّغوه هكذا إلى جلالة الملك». وهنا توقف الحديث مع بوتفليقة وبعد عودتي إلى الرباط أحطت الملك علما بالتأويل الجزائري للاتفاق.

* كيف تقبل الملك الموقف الجزائري؟

ـ لم يعلق الملك على ما نقلته إليه وبدا متألما ولا شك أنه تأثر لأن الجزائر اشتطت في طلباتها بإفراغها الاتفاق من محتواه.

* إذن لقاء لوساكا مع بوتفليقة دق إسفين عدم تنفيذ اتفاق تلمسان؟

ـ بالفعل.

* في عام 1970 ايضاانعقدت قمة نواذيبو الثلاثية في موريتانيا وضمت الملك الحسن الثاني وكنتَ بجانبه وزيرا للخارجية، والرئيس الجزائري هواري بومدين، والرئيس الموريتاني المختار ولد داداه. فما هي أسباب انعقاد تلك القمة ؟ وما هي القضايا التي عالجتها؟

ـ انعقدت هذه القمة وكان بجانب الرئيس الجزائري وزير خارجيته عبد العزيز بوتفليقة، وكان بجانب الرئيس الموريتاني وزير خارجيته حمدي ولد مكناس. كانت هذه القمة تشير إلى التوجه إلى قيام محور ثلاثي بين العواصم الثلاث. وكانت ترمي إلى تقوية علاقات المغرب والجزائر بموريتانيا التي أصبحت لها علاقات متميزة مع المغرب. وتقرر فيها دعم اقتصاد موريتانيا من لدن البلدين الشقيقين ويمكن القول إن النظام الموريتاني ركز قواعده بالداخل باستضافته هذه القمة التي كان بداية لتدشين عهد من العلاقات الحميمية القائمة على النِّدِّية بين المغرب وموريتانيا وتكريس نسيان الماضي

* اثناء وجودك على رأس وزارة الخارجية المغربية حضرتَ أول مؤتمر لوزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي في جدة. فبماذا تميز ذلك المؤتمر؟

ـ كان المراد من مؤتمر وزراء الخارجية أن يوفر لمنظمة المؤتمر الإسلامي بنياتها الأساسية وآليات عملها فانتخب مجلس الوزراء على رأس الأمانة العامة الأمين العام الأول عبد الرحمن طانغو من ماليزيا. وصادَق على الميثاق الأساسي للمنظمة لأن القمة الإسلامية الأولى التي انعقدت بالرباط سنة 1969 إنما أقرت قيام منظمة المؤتمر الإسلامي بدون ضبط وسائل عملها وخلق أجهزتها وكان على مؤتمر وزراء الخارجية إعداد كل ذلك.

وعندما عقدنا اجتماع جدة استغربنا أن الدول الـ20 التي حضرت القمة الإسلامية الأولى بالرباط نزل عددها في مؤتمر وزراء الخارجية إلى .15 وكان في تعاليق الصحافة المصرية ما يشير إلى أن مصر غير مقتنعة بجدوى إيجاد منظمة المؤتمر الإسلامي وأنها تفضل الاكتفاء بجامعة الدول العربية.

ولما انعقد المؤتمر كان من جملة ما تقرر فيه أن يكون مقر منظمة المؤتمر الإسلامي في القدس بعد تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي وأن تتخذ مقرها بجدة مؤقتا، ونظر المؤتمر في اقتراح تقدمت به بعض الدول لإنشاء البنك الإسلامي للتنمية. فحدث نقاش حول مقره. وكانت مصر على لسان وزير خارجيتها محمود رياض تلح في أن تكون القاهرة مقر البنك وكأنها لوحت إلى أن ذلك شرط في تعاونها داخل المنظمة. وكانت مصر تقول إنه لا يمكن أن تكون جدة في آن واحد مقرا للمنظمة ومقرا للبنك الإسلامي. واستقر الأمر في النهاية على أن تكون كل من الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية في جدة. وعندما أُعلِن عن تأسيس البنك انهالت طلبات الدول الإسلامية من أفريقيا وآسيا للالتحاق بمنظمة المؤتمر الإسلامي.

لقد أردت أن أؤكد على هذه النقطة بالذات لأن اتحاد أوروبا قام على أساس الاقتصاد أولا. وقرار إنشاء بنك التنمية الإسلامي لـمَّ شمل الدول الإسلامية أكثر حول منظمة المؤتمر الإسلامي. وأود أن أضيف أن انتخاب عبد الرحمن طانغو أضفى على المنظمة هالة احترام فالرجل كان وزيرا أول وفضل هو وحكومته أن يكون على رأس الأمانة العامة.

* وكيف أصبح موقف مصر من المنظمة بعد ذلك؟

أصبحت مصر مؤيدة ومساعدة بعدما كان لديها في الأول شبه تخوف. وربما لأنه كان يقال في ذلك الوقت إن التضامن الإسلامي سيكون بديلا عن القومية العربية، وأن تأسيس المنظمة تم بإيحاء من الولايات المتحدة. وفي تلك الأثناء كانت الحرب الباردة على أشدها بين موسكو وواشنطن. وكان عدد من أقطار العالم الثالث يميل إلى الاتحاد السوفياتي أو يلعب على ورقة التنافس بين القطبين.

* هل لك أن تحدثني عن طبيعة علاقتك بالملك فيصل، وعن شخصيته التي عرفتها عن قرب؟

ـ كان رحمه الله شخصية متعددة الأبعاد. كان دبلوماسيا خَبَر السياسة وخَبَرتْه وعاركها وعركته وكان أيضا رجل الحلول الوسطى، مؤمنا أشد ما يكون الإيمان بالبعد الإسلامي الذي كان يرى أنه شكل الرافد الأساسي لدعم القضية العربية مهيضة الجناح في ذلك الوقت خاصة بعد حرب .1967 ترددت على الملك فيصل 4 أو 5 مرات: مرة وردت عليه لأحمل له دعوة الملك الحسن الثاني لحضور القمة الإسلامية، ثم جئت إليه مبعوثا لأحمل إليه دعوة القمة العربية التي انعقدت بالرباط وحدثتك عن وقائعها وكان قد خصني باستقبال مطول عندما جئت للمشاركة في مؤتمر وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي وحضر بداية اجتماعي به في جدة الزميل عمر السقاف ثم تركني مع جلالته على انفراد. وجئت إليه مبعوثا من الملك الحسن الثاني في شؤون العلاقات الثنائية مرتين. وفي كل مرة كان يستقبلني بدون كلفة ويستبقيني عنده لتناول الغداء أو العشاء وكان يتابع الأخبار العالمية بدقة ويتوقف في تحليلها بنظرة الخبير المحنك، ولما يحين موعد نشرة الأخبار يقول لي «لنستمع جميعا إلى نشرة الأخبار عسى أن يكون فيها ما يفيد» فيشعل المذياع ويقطع المباحثات، ويواصلها بعد انتهاء نشرة الأخبار. وبعدما توالت لقاءاتنا أصبحت بيننا علاقات حميمة جعلته مرة يقول لي: «اعتبر نفسك واحدا من أبنائي».

* ما هي أهم المواضيع التي تباحثت فيها مع الملك فيصل آنذاك ؟

ـ الملك فيصل لم يكن يقتصر في حواره مع مخاطبه على موضوع واحد. كان يملك ثقافة سياسية واسعة. كانت الأحاديث شجونا وخاصة عندما انطلقت منظمة المؤتمر الإسلامي حيث كان منشغلا بتفعيلها، وإعطاء الاهتمام للسند الإسلامي في دعم القضية العربية. وكان ينتقد اتجاه القومية العربية ويراه قاصرا عن تحقيق ما يتطلع إليه العالم العربي من تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة: أراضي سورية ومصر والأردن. وكان يرى أن العالم الإسلامي هو الرديف الطبيعي لكفاح العرب. وكان يتحدث مطوَّلا عن أخطاء القوميين العرب ونظم الانقلاب العسكري العربية ويحملها مسؤولية النكسات العربية، فقد رفض أن تقوم الشرعية على انقلاب عسكري. وكان يرد أسباب هزيمة الحرب العربية في حرب 1967 إلى فشل الثورات العسكرية التي سادت المشرق العربي.