العراق في حالين: صدام لا يموت.. ولا يمرض!

TT

(1) الامر يتعلق بشخص واحد. والامر يتعلق باسلوب نظام يقوم على شخص واحد. كان الشائع لدى العراقيين والعرب ان الرئيس العراقي سيورث السلطة لابنه ويجعل من نظام الحزب (جمهورية عضوضا) كما كانت ملكا عضوضا. وكان العراقيون يعولون على ان هذه البادرة ستولد سخطا في صفوف الحزب الحاكم وربما ادت الى انقلاب عسكري او حزبي. يشاء القدر ان يخذل العراقيين في تفكيرهم هذا ويضيفوا شاهدا جديدا على (محظوظية) الرئيس العراقي، الذي وجد المثال السوري يسبقه بدون ازعاج.

صدام حسين رقم صعب. الواقع انه رقم صعب في العراق اكثر مما هو في الشرق الاوسط. والولايات المتحدة الاميركية تعاملت مع العراق من خلال كونه شخصا واحدا اسمه صدام حسين. آخر الامر قال مسؤول مجلس الامن القومي صموئيل بيرغر انهم ينتظرون ان يموت صدام حسين على فراشه في بغداد.

حسنا ليس هذا اكتشافا. فالموت قدر على البشرية كما قالت ملحمة كلكامش وليس الخلود الا للخالق كما قالت الاديان. وبيرغر افزع وصدم قسما من المعارضة التي تؤمن ان واشنطون هي الوحيدة القادرة على قلب نظام صدام حسين. غير ان المعنى الاميركي كان يتضمن خبرا يمكن ان يقرأ خلال السطور: ان صدام حسين مريض ويعيش اشهره او سنواته الاخيرة.

هل يعاني صدام من سرطان الدم، ام من سرطان الغدد اللمفاوية، ام من اكتئاب حاد، ام من خلل في صمامات القلب، ام لا يعاني من اي مرض اطلاقا؟

ظل النظام السوفياتي يعيش على صحة ليونيد بريجينيف فعاشت الحرب الباردة ومعاهدات «سالت» على الشائعات. كانت صواريخ موسكو تنطلق بضجيج اعلامي كبير بينما لا احد يعرف متى دخل بريجينيف الى المستشفى ومتى خرج منه ومم يعاني؟ من الشيخوخة، ام من سرطان، ام من انغلاق الافق امام الاشتراكية؟ ثم صار بريجينيف يتعثر امام كاميرات المصورين في الاستعراضات او الزيارات الرسمية، وكان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي يعج بشيوخ يرتجفون في منصات الاستعراضات الكبرى وينامون واقفين بينما القطعات العسكرية تمر في الساحة الحمراء شاهدا على (عظمة) الاتحاد.

فجأة تهاوى بريجينيف فتسارع تهاوي النظام كله فلم يكمل سبعة اعوام حتى خرج الاتحاد السوفياتي من الواقع لينضم الى التاريخ.

كعب اخيل النظام الشمولي الاستبدادي يقع في قلب هذا النظام وليس في كعبه الذي لم يغمره الماء المقدس. فهو يتأسس على شخص وليس العكس. وانهيار المؤسسة حتمي بانهيار الشخص الذي تقوم عليه.

غير ان المستبدين لهم سبع ارواح كالقطط. فرانكو ظل يحتضر اربعين يوما. ومثله تيتو. وها هو بينوشيه يحتضر من لندن الى سانتياغو منذ سنتين تقريبا. انهم الاكثر مقاومة للموت لان الموت يريد ان يأخذ مع ارواحهم العروش الثقيلة التي جلسوا عليها وغرسوها بالدم والجثث والاقصاء والالغاء والنفي والتعذيب والسجون والجماجم.

هل مات صدام حسين؟ يمكن له ان يموت ويظل شبحه يحكم اربعين يوما. في مطلع الثمانينات لفق برزان التكريتي، شقيق صدام، كتابا عن محاولات اغتيال صدام حسين. كان الكتاب من صنع جهاز المخابرات العراقية، وقصص الاغتيالات كتبها قسم الاغتيالات في المخابرات باشراف برزان نفسه. عشرات المحاولات الفاشلة. هذا هو المهم، الفاشلة. كان الكتاب مقدمة تحذيرية لمن يحاول التفكير باغتيال صدام حسين. والسبب بسيط هو ان المخابرات العراقية كانت تكتشف المحاولة منذ الساعات الاولى للتفكير بها وتزرع عملاءها في صفوف المجموعة المخططة التي يلقى عليها القبض قبل التنفيذ. واكثر من ذلك فإن المخابرات تخطط لعمليات موهومة لكي تكتشف من يفكر باغتيال صدام وتعدم المفكرين هؤلاء.

الوقاية بهذه الطريقة جزء من عمليات النظام العراقي، فهل يكون تسريب انباء عن مرض صدام اختباراً للمستقبل؟

يسأل صدام حسين نفسه: ماذا يحدث اذا اختفيت من المسرح؟ هل يحدث انقلاب؟ هل تحدث حرب بين قصي وعدي؟ هل تحدث انتفاضة؟ هل يحدث تدخل خارجي؟ ما هي ردود الافعال الدولية والاقليمية، هل يجري كل شيء بهدوء وتنتقل السلطة بمراسيم عادية ولكن حزينة؟

كل ذلك السؤال من اجل سؤال آخر: هل يبقى النظام بعد رحيل صاحبه؟

هذا النظام الذي بناه صاحبه جثة جثة، وسجنا سجنا، وقبوا قبوا، ومجزرة مجزرة، هل يدفع الثمن فجأة وينهض غول الحساب والانتقام؟

مثلما يخوض صاحب النظام معركته من اجل حياته يخوض المعركة من اجل موته، والا لماذا هذا الكم الهائل من الامن؟ لماذا تقطع آلاف الاشجار على طول الشوارع وتوضع مكانها اضوية هائلة؟ لكي لا يقف شخص وراء شجرة ويطلق النار على سيارة الرئيس التي تغيب وسط عشرات السيارات المتشابهة باللون والرقم والستائر السوداء. لماذا تهدم مناطق بغداد الاثرية العباسية وازقتها وتفتح شوارع عريضة صالحة لمرور الدبابات واحتلال المدينة؟ لماذا تبنى عشرات البيوت الرئاسية العلنية وعشرات سرية، بمئات الملايين في زمن الحصار والجوع والمرض والعزلة والكآبة والرعب والموت السريع والتشوه الخلقي ووجوه الاطفال التي تشبه وجوه المومياءات؟ لماذا يؤسس حرس خاص بعشرات الآلاف وفدائيو صدام بعشرات الآلاف ويظهر على المسرح زي مقاتلين ملثمين بالاسود يرتدون البياض وكأنهم يعيدون زي حراس الجحيم في العالم السفلي الذي تحكمه اركشيجال لكي لا يخرج تموز الى الارض ويعيد الخصب والنماء؟

هل يتجدد صدام في تاريخ العراق كما يتجدد تموز رغم الفارق بين وظيفتي كل منهما؟

هل مات صدام؟ هل يموت؟ تصريح وزارة الاعلام يرفض ان يجعل الناس يصدقون ان صداماً يمكن ان يمرض. فكيف يمكن ان يصدقوا انه يمكن ان يموت؟ ها هو كما يقول التصريح يطلق بيد واحدة مئات الطلقات مما يعجز عنه الشباب. ومن اية بندقية؟ يقول سفير عراقي في قناة فضائية انها من طراز «برنو»، ويضيف: والمعروف انها بندقية ثقيلة لا يقوى على حملها كل شخص. هل كان الشباب العراقي الذي اهين بهذا التصريح عن عمد واصرار عاجزا حين القى به صدام حسين في جحيم الحرب مع ايران او في اجتياح الكويت؟ هل يريد التصريح ان يلقي بعار الهزيمة ومسؤولية الكارثة على الشباب العراقي الذي لا يقوى على اطلاق الرصاص بيد واحدة كرئيسه الذي تجاوز الستين عاما؟

انها سخافة كما يقول التصريح. ولكن اين تقع؟ في الحديث عن مرض رئيس، ام في القاء المسؤولية على الشعب، ام في سرعة تصديق المعارضة العراقية او بعض فصائلها التي تنجر الى تبني شائعات النظام، او تتسرع كما تسرع صادق قطب زاده وزير الخارجية الايراني الاسبق فاعلن من دمشق في مؤتمر صحافي: جاءني الآن خبر من بغداد. لقد قتل صدام حسين. كانت محاولة الاغتيال فاشلة وكان نبأ الاعلان عن مقتل صدام يفضح فشل تصديق موته.

الاقتدار هو رسالة النظام الى الجميع في الداخل والخارج. والاقتدار في تصريح وزارة الاعلام قدرة صدام على تجنب المرض وتجنب الموت. وصدام نظم كثيرا من التظاهرات المخططة لابراز اقتداره. حتى توابيت الاطفال الصارخة ضد الحصار والتي غابت بمجرد نزول اول طائرة في بغداد، كانت تسعى لابراز اقتدار النظام على صنع رأي عام عربي ودولي ضد الولايات المتحدة وبريطانيا، كما تسعى لحجب الواقع الآخر في العراق. وربما يحاول صدام اليوم تنظيم تظاهرة اختفائه وموته. الاقتدار هو ان لا يموت صدام. فهل يستطيع ان يموت؟

2 أين الخطأ في هذه الرواية؟

«وقف صدام حسين في شرفة البيت..

وقف صدام حسين في شرفة البيت يتطلع الى المحيط السماوي المشتعل..

وقف صدام حسين في شرفة البيت يتطلع الى المحيط السماوي المشتعل وهو بملابس النوم..

وقف صدام حسين في شرفة البيت يتطلع الى المحيط المشتعل وهو بملابس النوم يهزج وينتخي بالنشامى..

وقف صدام حسين في شرفة البيت يتطلع الى المحيط المشتعل وهو بملابس النوم يهزج وينتخي بالنشامى ويتابع رمي المقاومات والصواريخ..».

هذه الرواية وردت على لسان سكرتيره ومرافقه اللواء (وربما الفريق) عبد حمود في كتاب صدر عدة مرات عن وزارة الثقافة والاعلام العراقية اسمه (المنازلة الكبرى وقائدها: المقدمات والوقائع)، ويضيف السكرتير والمرافق في شهادته ان صدام حسين كتب خطابا قرر (توجيهه الى الشعب العراقي والامة العربية والعالم عن مجريات العدوان) بينما كانت (جدران المنزل تهتز من شدة القصف).

واضاف ان العملية استغرقت اكثر من ساعة نظرا لعدم وجود معدات مناسبة وجرت وسط (دوي انفجار الصواريخ والقنابل وانهيار المباني والمواقع التي استهدفتها وسائل الدمار والحقد والعدوان)، واوضح حمود (ان وسائل الانارة لم تكن متوفرة في البيت الذي اطلق عليه الرئيس العراقي اسم «بيت النصر»).

انتهت الرواية والمقتبسات بين قوسين كما وردت على لسان اللواء حمود! فاين الخطأ في هذه الرواية؟

الرواية كما هو واضح ترد على ما كان تردد في وسائل الاعلام العالمية خلال الحرب من ان الرئيس العراقي صدام حسين يختبئ في احد الملاجئ المحصنة تحت الارض.

الاختباء يعني ان الرئيس لم يكن شجاعا، وانه ترك جيشه وشعبه تحت القصف واختبأ في ملجأ محصن تحت الارض. والرواية غرضها تأكيد مسؤولية الرئيس العراقي عن شعبه وجيشه، وانه كان مثل اي مواطن عراقي في تلك الليلة. ديكور المواطن العادي هو: منزل متواضع. وجوده بملابس النوم من دون مسؤولية رسمية. لا يقاتل او يضع خطط الدفاع والتصدي ومتابعة مجريات الحرب من خسائر او انهيار جبهة او اختراق العدو، او اي شيء آخر من مهمات القائد الميداني الذي يمكن ان يوجد في غرفة العمليات وليس بالضرورة في قلب الميدان. يهزج وينتخي بالنشامى، وهذه ميزة لم يكن المواطن العادي يقوم بها لان هذا المواطن خائف وحذر وبالتالي فانه مشغول بحماية نفسه وافراد اسرته تحت السلم او في مكان اكثر تماسكا وغير مكشوف. ومثل اي مواطن عادي يتابع رمي المقاومات والصواريخ.

كثير من العراقيين الذين شهدوا القصف وخرجوا من العراق تحدثوا عن انهم كانوا يتابعون مسار الصواريخ والقذائف الموجهة حالهم حال الرئيس الذي يتميز عن شعبه بأنه فوقهم في كل شيء. فما الخطأ في هذه الرواية؟

نظرة واحدة بعد اتمام الرواية تتضح جملة من الاخطاء الفادحة التي وقع فيها الاعلام الموجه الذي يرد على وسائل الاعلام العالمية التي حملت الرئيس مسؤولية الاختباء تحت الارض وترك جيشه وشعبه في العراء نهبا للقذائف والنيران والصواريخ والموت الزؤام.

لا لم يكن الرئيس في مخبأ تحت الارض. كان مع شعبه. هذا هو الهدف الذي تتوخاه الرواية. مع شعبه؟ اين؟ في منزل صغير له شرفة. حسنا. كان الرئيس العراقي في منزل متواضع له شرفة في الساعات الاولى من القصف.

تغفل الرواية اي شيء عن معدات المنزل. هذا يعني انه لم يكن مقر قيادة حتى ولو موقتة او متحركة. ويؤكد ذلك ان التيار الكهربائي كان مقطوعا في (بيت النصر)، وهو الاسم الذي اطلقه الرئيس عليه. فالمهم هو صناعة التاريخ عبر اطلاق الاسماء حتى لو على (وقائع) وهمية.

فات الرواية ان تسد ثغرة كبيرة متعلقة بملابس النوم. السؤال الذي يفتح هذه الثغرة هو ان العراقيين كما يؤكد كثير من الروايات والاحداث والشخصيات والناس الذين تركوا العراق، كانوا يتوقعون بدء الحرب تلك الليلة الا الرئيس الذي ارتدى ملابس النوم ونام فايقظته اصوات القذائف والمضادات الجوية. السؤال اذن كيف ارتدى الرئيس ملابس النوم ونام او استعد للنوم فيما ترك شعبه او نصف شعبه يقظا يترقب الكارثة؟ ثغرة كبيرة في رواية اللواء حمود. فالمفترض ان يكون الرئيس في مقر قيادة متوقعا في كل لحظة ان يرد على الهجوم ويصدر اوامره ويتابع المجريات. وهذا يذكرني باللقطة التي تصور نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية آنذاك طارق عزيز وهو يرمي على المائدة الرسالة الاميركية التي سلمها له وزير الخارجية الاميركية (العدوة التي تحضر لشن الهجوم) من دون ان يفتحها او يعرف محتوياتها، مما يكشف عن عمق الشعور بعدم المسؤولية تجاه العراق ومصيره ومستقبل شعبه. لكن الثغرة تتسع حين لا يهرع الرئيس الى اقرب المواقع العسكرية او مواقع القيادة حتى لو كانت تحت الارض فليس في ذلك اي عار ان تكون القيادة العسكرية قد حصنت موقعها ضد قذائف العدو، وانما يكتفي بعدم الاسراع الى مقر القيادة بأن يهزج وكأن هزجه في قلب المعركة وليس في منزل متواضع لا يسمعه فيه مقاتلو قريش الذين هزجت لهم هند بنت عتبة تحرضهم على القتال. اذن كان يهزج وينتخي بالنشامى البعيدين الذي يقبعون في خنادق الكويت وخنادق السماوة وخنادق الصحراء الغربية على الحدود مع المملكة العربية السعودية وهم يتلقون اطنان المقذوفات القاتلة. ومثل اي مواطن عادي كان يتابع رمي المقاومات والصواريخ.

اية رواية، رواية عبد حمود هذه، فبدلا من ان تصلح الصورة سكبت عليها الحبر الاسود، فهي تعترف بدون لبس بـ(وضع الرئيس) لحظة بدء الحرب. وتمضي في كشف هذا الوضع الى درجة ان الدفاع الوحيد للرئيس كان إعداد خطاب الى الشعب العراقي والامة العربية والعالم عن مجريات الحرب؟

اية مجريات والرئيس يتابع المقاومات ويهزج على شرفة منزل متواضع في الساعات الاولى من القصف والعالم والامة العربية تابعت ورأت اكثر مما تابع ورأى الرئيس في تلك الساعات؟ الرواية لا تفصح ان الغرض من كل هذا الخطاب هو كلمتان اراد الرئيس ايصالهما الى الشعب العراقي. (ما زلت حيا) و(ما زلت الحاكم). ففي قصف مثل ذلك القصف الرهيب كان يمكن للرئيس ان يقتل او يستشهد في اي مقر عسكري قيادي او مقر ميداني في ارض المعركة. ولكن الرئيس لا يفكر بهذه الطريقة التي يفكر بها المواطن او الثائر او المدافع عن شعبه ووطنه. يبقى سؤال ساذج واخير: اين النصر؟ واين بيت النصر؟

* كاتب عراقي