الأمن القومي العراقي.. الإنسان أولا

TT

مفهوم الأمن القومي في الدولة العراقية الجديدة يعني قدرة الحماية الذاتية المتكاملة المتأتية من الخطط الشاملة والتطبيقات المتجانسة التي تتمكن بها الدولة من خلال منابع قدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية على حفظ المواطن والوطن والمصالح الوطنية في السلم والحرب وعلى تنوع مساحات الحقوق والواجبات والمسؤوليات والأهداف في دوائرها الشخصية والجماعية الشعبية والرسمية.

إن الرقعة المفهومية للأمن القومي الحديث تتركز لدينا على التطور والتنمية في كافة الأبعاد والحقول والتطبيقات في ظل حماية مدروسة ومضمونة تنبع من المعرفة العميقة بالامكانات الذاتية وبمصادر التهديد القائمة والمتوقعة التي تحيط بالدولة العراقية إنسانا وأرضا ودولة ومصالح.

إن في طليعة ركائز الأمن القومي الجديد اعتبار المواطن العراقي قيمة إنسانية وقيمة وطنية بما يحفظ كرامته وحقوقه الأساسية ويضمن تأدية واجباته الرئيسة وتوفير المناخات اللازمة لتلبية احتياجاته المادية والمعنوية إذ لا أمن مع انتفاء مقومات الكرامة والحقوق الإنسانية والوطنية فالدولة التي تهمل وتستعبد مواطنيها لن تظفر بالأمن وفق اية صورة.

إن أي مفهوم حقيقي للأمن لابد ان يرتكز على الإنسان المواطن وليس على الدولة وحسب, فان امن الفرد يطابق امن الدولة وأيضا في الدولة او السلطة وفي كثير من الأحيان تكون هي المهددة لأمن مواطنيها كما في دولة صدام الغابرة, فكان لا بد ان يحمى الفرد من سطوة الدولة والسلطة من خلال الحفاظ على منظومة الحقوق والواجبات ضمن شبكة قانونية وإجرائية تجعل الأمن الإنساني هدفاً أعلى للأمن القومي.

تطور مفهوم الأمن القومي تبعا لتطور الوعي الإنساني الحقوقي والسياسي حيث كان المفهوم يقتصر على امن الدولة القومية ضد أي تهديد عسكري يطال نظامها السياسي أو سيادتها أو مصالحها, لذا كانت القوة العسكرية هي الرادع الأمني الأول ونجد هذا الفهم هو السائد من نشأة الدولة القومية عام 1648, إلا أن مفهوم الأمن القومي اخذ بالتوسع التدريجي وفقاً لإيقاع تطورات الوعي والتنظيم الإنساني وتشابك وتوسع مفاهيم وشبكة وتداخلات السياسة الدولية.

لقد أخذت تتجذر معادلة جديدة لفهم موضوع الأمن القومي حيث لم يعد التهديد العسكري يشكل التهديد الأوحد لأمن الفرد والمجتمع والدولة, والفاعل في الساحة الإنسانية والدولية لم يعد يتمثل بالدولة فقط فهناك المنظمات الحكومية والإقليمية والدولية, وهناك المنظمات الدولية غير الحكومية, وبرزت مخاطر جديدة تتسم بالدمار الشامل وهي تقع خارج نطاق سلطة الدولة من حيث النشوء والحركة, كمنظمات الإرهاب الدولي وعصابات الجريمة المنظمة وشيوع الأوبئة كالايدز والتلوث البيئي وانتشار الفقر والبطالة وتنامي سلبيات العولمة, فهذه الموضوعات وغيرها غدت مصادر حقيقية لتهديد الأمن القومي إذ تستنزف الامكانات والطاقات لأجل محاصرتها وتلافي اخطارها, ويكفي أن نشير الى وجود 15 مليون لاجئ في العالم بالإضافة إلى 27 مليون نازح داخلي بسبب الصراعات الداخلية والحروب الإقليمية, وان العالم قد انفق خلال السنوات العشر الأخيرة 240 مليار دولار على علاج مرض الايدز فقط, بينما يموت كل دقيقة 24 شخصاً جوعا في أرجاء المعمورة وان مضاعفات التآكل في طبقة الأوزون أثرت على مناخ العديد من دول العالم مسببة الكوارث الطبيعية, وان جرائم الارهاب الدولي تشل حركة التنمية والتطور في العديد من دول العالم, وان قضايا الانفجار السكاني وشح المياه وتضاعف مخاطر التلوث الصناعي.. الخ كلها موضوعات تهديد جدي وشامل ليس لمفهوم والية الأمن التقليدي القدرة على مجابهتها.

من هنا استقر مفهوم الأمن القومي على القدرة في الحماية والوقاية والردع تجاه مختلف أنماط التهديد الداخلي والخارجي، الإنساني والوطني، الفردي والجماعي، وعلى تنوع أشكال التهديد العسكري والسياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي والبيئي, فالدولة الصالحة والسلطة الرشيدة والقانون العادل والتنمية المستديمة والتوعية الهادفة... الخ غدت قواعد نجاح خطط الأمن القومي ومادة أجهزتها المكلفة بالحماية. إضافة إلى التحديات الأمنية التقليدية فان هناك تحديات نوعية تهدد الأمن القومي العراقي تبرز وتتحرك تبعا لتطورات الوضع العام للبلاد, ويمكننا إدراج أنواع التحديات وهي كالتالي:

* التحدي السياسي متمثلاً بإكمال شؤون السيادة الوطنية وإقرار النظام السياسي الديمقراطي والحفاظ عليه وحفظ كيان الدولة ومؤسساتها وحدودها وأمنها العام.

* التحدي الاجتماعي متمثلاً بتحجيم وإقصاء النعرات العرقية والطائفية والسياسية التي تهدد التماسك الاجتماعي الوطني.

* التحدي الاجتماعي متمثلاً باستئصال عوامل ومسببات ومكامن وأوكار الجريمة العادية والمنظمة التي تزعزع الاستقرار الاجتماعي.

* تحدي الإرهاب متمثلاً بالإرهاب الفكري والاجتماعي والسياسي والإجرامي الذي يستهدف الإكراه والفرض والترويع لأمن واستقرار المجتمع والدولة.

* التحدي الاقتصادي متمثلا بعدم الاستقرار الاقتصادي وتفشي البطالة والفقر وتحديات البناء والتطور. * تحدي النظام العام القانوني والإداري والوظيفي كلوائح قانونية وهياكل إدارية وإجراءات تنفيذية لكافة مرافق الحياة والدولة.

* التحدي الإعلامي متمثلاً بإحاطة الرأي العام العراقي بطبيعة وخصائص التحولات في الحياة العراقية الجديدة, وأيضا تحصين الرأي العام تجاه الحملات الإعلامية المغرضة والهادفة لإفشال تجربتنا العرقية الوليدة.

* التحدي الثقافي متمثلا بإفشال التأثير الثقافي والقيمي الوافد والمضاد لخصوصيتنا العراقية والهادف للهيمنة والتأثير من خلال الامتداد الثقافي بعناوينه المختلفة.

وهناك العديد من التحديات التي تعرقل منظومات الأمن القومي من خلال الآثار المدمرة للتجربة الصدامية الكارثية كالتحديات العلمية والتربوية والبيئية والصحية, وتحديات بناء الأجهزة والمؤسسات الأمنية والعسكرية.

انطلاقا من المفهوم الشامل للأمن بما فيه الأمن الانساني, فإن رؤيتنا للقضية الأمنية الوطنية رؤية شاملة تتطلب جهداً رسمياً وشعبياً وفردياً وجماعياً لتحقيق متطلباتها وتوظيف نتائجها لصالح الوطن والمواطن, ورؤيتنا الأمنية تضع قضايا التنمية والتماسك المجتمعي والسيادة القانونية في قمة أولوياتها العملية في السياسة الأمنية الجديدة.

إن تأمين استقرار وسلامة الفرد والمجتمع والدولة العراقية في الداخل والخارج يتطلب استراتيجية أمنية متكاملة تجعل قضايا الاقتصاد والسياسة والوحدة والتطور في سلم اولوياتها.

من هنا فإن الأمن القومي يتشكل لدينا من الامور التالية:

* الأمن الإنساني القانوني بما يضمن حماية الحقوق الإنسانية والوطنية للإنسان العراقي, وبما يكفل تأدية واجباته ضمن منظومة عادلة ومتوازنة من الحقوق والوجبات ويدخل ضمن هذا الباب الأمن القضائي والأمن الجنائي.

* الأمن السياسي بما يضمن حماية الكيان السياسي العراقي كدولة ديمقراطية حرة وذات سيادة, وبما يضمن ديمقراطية الحياة السياسية العراقية في التعددية والانتخابات والعمل والمعارضة السلمية, ويدخل ضمن هذا الباب الأمن السياسي الداخلي بتنوعاته والأمن السياسي الخارجي بأنواعه.

* الأمن الاقتصادي بما يضمن حماية اقتصاد الدولة العراقية ومواردها وخططها ورفاهية وسعادة مواطنيها, ويدخل ضمن هذا الباب امن اقتصاد الدولة وامن اقتصاد الأفراد والمؤسسات والشركات.

* الأمن الاجتماعي بما يضمن وحدة المجتمع العراقي وسلامته وتماسكه واندكاك أفراده بالولاء والانتماء إلى العراق, ويدخل ضمن هذا الباب الأمن الوقائي ضد التخريب والجريمة والإرهاب.

* الأمن القيمي بما يضمن حماية منظومات المجتمع العقائدية والقيميه والثقافية ضمن مناخات الانفتاح والتناغم الايجابي مع العالم ويدخل ضمن هذا الباب الأمن الثقافي والأمن الإعلامي.

* الأمن الصحي بما يضمن حماية صحة الفرد وسلامته تجاه الأوبئة والأمراض وكل ما يهدد سلامته الصحية.

* الأمن البيئي بما يضمن الحماية من مخاطر التلوث الطبيعي والصناعي للحفاظ على بيئة نظيفة وصالحة.

استناداً إلى مفهوم الأمن القومي الشامل فان مسؤوليات الأمن تتوزع على أربعة مستويات:

أولا: الأمن الشامل للمواطن ضد أية أخطار قائمة أو متوقعة تهدد حقوقه وحرياته وممتلكاته وكرامته وأمنه على الصعيد الشخصي والأسري الفردي والجماعي.

ثانياً: الأمن الشامل للوطن ضد أية أخطار قائمة أو متوقعة تهدد نظام ووحدة وسيادة وامن واستقرار وموارد ومصالح الوطن العراقي.

ثالثا: الأمن الإقليمي الشامل, ويعني إيجاد منظومة اتفاقات ومعاهدات إقليمية مشتركة لواجهة التهديدات ذات البعد الإقليمي.

رابعاً: الأمن الدولي الشامل, ويعني التعاون المشترك مع الدول والمنظمات الدولية كمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بما يحفظ الأمن والسلم الدوليين.

أخيرا هناك العديد من الأسس والدعائم التي تدخل في صلب منظومة الأمن القومي فيما لو توخينا أمنا قومياً متينا ومتكاملا يحفظ للإنسان والمجتمع والدولة كافة عوامل الاستقرار والتقدم, منها:

ـ التنمية البشرية الشاملة العلمية والثقافية والتربوية لكافة أفراد وشرائح المجتمع.

ـ التنمية الاقتصادية الشاملة على مستوى الدولة ومؤسسات المجتمع الإنتاجية.

ـ التنمية السياسية الشاملة في التفاعل الايجابي مع خصائص الحياة العراقية في الديمقراطية والتعددية.

ـ اللوائح الدستورية والقانونية العادلة والمتطورة الضامنة لسيادة القانون وشمولية العدالة.

ـ برامج الحماية لمنظومات الأمن الإداري والوظيفي.

ـ برامج الوقاية من الإرهاب والجريمة.

إن سياسة الأمن القومي لدينا سترتكز على هذه الرؤيا وستنظم برامجها والياتها وفقاً لذلك بالتنسيق والتعاون مع وزارات الدولة وأجهزتها المختصة.

* مستشار الأمن القومي العراقي