يتعامل الكثيرون مع المشروع الديمقراطي على أنه قرار سياسي يصدر من رئاسة الحكومة، ويأخذ طريقه للتنفيذ عبر قنواتها الرسمية. ويأخذ هؤلاء على العملية الديمقراطية أنها تسير ببطء، وكأن الخلل يكمن في جدية القرار.
إن البناء الديمقراطي عملية صعبة وشاقة، فهي تعني إحداث تحول جوهري في الحياة العامة، تحول شامل يقتلع جذور الممارسة الدكتاتورية السابقة، ويمحو آثارها من الواقع، ويزيل ترسباتها وبقاياها من النفوس، لأن البناء الديمقراطي لا يمكن أن يقوم على أساسات قديمة، فهو ليس غطاء يخفي الحالة السابقة عن الأنظار، إنما هو عملية تحول حضاري، لها أسسها الخاصة، ولها سماتها المتميزة، ولا يمكن أن تثبت أعمدتها على الأرض قبل ان يصار إلى توفير مستلزماتها الصحيحة.
ما حدث في العراق، كان خطوة واحدة حتى هذه اللحظة، خطوة تمثلت بإزالة نظام دكتاتوري شرس، استطاع أن يهيمن على حقبة زمنية طويلة، وأن يصمم جزئياتها ومساراتها وفق ما يريد. وهذا يعني أن تبعات سياسته الديكتاتورية قد دخلت في عمق الحياة العراقية.
وفي الوقت نفسه، علينا أن نأخذ في الاعتبار نقطة لها أهميتها الكبيرة، وهي أن إسقاط نظام صدام حسين، لم يأت بفعل شعبي مباشر، إنما جاء نتيجة عمليات عسكرية لقوات التحالف، أطاحت به وقوضت نظامه، وحولت العراق إلى بلد خاضع للاحتلال الأجنبي، مما أضاف مشكلة كبيرة أخرى على عملية البناء الديمقراطي، حيث تداخلت العملية الديمقراطية مع إنهاء الاحتلال، وتحولت إلى إشكالية سياسية متداولة في الشارع العراقي.
إن العراق اليوم هو في حقيقته بلد يحتاج إلى تشكيل جديد. إننا اليوم بصدد بناء دولة، على أنقاض دولة مدمرة، وهي حالة فريدة في عالم اليوم، وأعتقد أن هذا هو جوهر المشكلة التي يواجهها العراق. فالأمر سيكون بسيطاً لو تمت الإطاحة بالنظام السابق على يد بديل آخر يؤمن بالحياة الديمقراطية، لكن الذي حدث هو انهيار كامل لعناصر الدولة وبناها الأساسية، مع بروز عوامل التدمير والإعاقة المتمثلة بالقوى الإرهابية والتي نشطت بشكل ملحوظ ومؤثر في إعاقة عملية البناء.
ربما يضرب البعض مثلاً باليابان وألمانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف أنهما نهضتا من تحت الدمار لتستويا في هيئة عملاق اقتصادي يحتل المراتب الأولى عالمياً، لكننا في هذه الحالة يجب أن نشير الى أن اليابان وألمانيا لم تواجها تحديات داخلية، وكانت هناك إرادة جماهيرية للبناء وترميم ما دمرته الحرب.
ما يحتاجه العراق الجديد، هو إرادة شعبية على البناء الديمقراطي، وفي تصوري أن هذه الإرادة هي أهم من أي قرار سياسي، لأن القرار السياسي سيفقد قوته المؤثرة، فيما لو افتقد إلى الإرادة الجماهيرية الداعمة والمتفاعلة معه.
ما يشهده العراق هو تهيئة ديمقراطية، وأن البناء لم يبدأ بعد، ويجب أن لا نستهين بالتهيئة، لأنها تعني اقتلاع جذور الدكتاتورية من أرضه، وإزالة الرواسب من حياته، وسد الثغرات في جسمه، وهذه هي المهام الأساسية والعلمية للانطلاق نحو عملية بناء ديمقراطي محكم ومتماسك وواقعي.
إن عملية البناء الديمقراطي في العراق، ليست شعاراً دعائياً يدغدغ مشاعر العراقيين المجروحة، إنما هو مشروع حضاري كبير، وتحول شامل يدخل في صميم مفردات الحياة ومرافق المجتمع والدولة، فنحن نهدف إلى بناء ديمقراطي تكون فيه الديمقراطية حالة متجذرة في الوجدان الشعبي وفي الشارع العراقي، بحيث لا يمكن التلاعب فيها، والالتفاف عليها أو مصادرتها.
* مدير مشروع التاريخ الشفهي في مؤسسة الذاكرة العراقية