البعث هو الذي اجتث البعث.. وها هي النهاية مأساوية

TT

حتى في أحسن التقديرات والأحوال، وحتى لو استطاع نظام الرئيس بشار الاسد الصمود في وجه هذا الإعصار العنيف الذي بات يضرب بلا هوادة، فإن ما يتبادر الى الأذهان بعد كل هذا الذي جرى هو: هل أن مصير حزب البعث، إن في سوريا وإن في العراق، غدا محسوم، وهل ان ورقة هذا الحزب الذي تأسس في السابع من إبريل (نيسان) عام 1947، غدت بحكم الساقطة وأنه بات في نهاية خريف العمر وأصبح غيابه مسألة محسومة ومنتهية..؟!.

ربما ان الصدفة وحدها هي التي جعلت ظهور صدام حسين وسبعة من أركان نظامه في قفص الاتهام امام محكمة، توصف بأنها ستكون تاريخية، يتزأمن مع صدور تقرير المحقق الدولي ديلتس ميليس المتعلق باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وهو تقرير فتح الابواب على مصاريعها امام رياح باردة عاتية ستهب على دمشق، وستجعل إمكانية نجاة سفينة الحكم البعثي لسوريا الذي بدأ في الثأمن مارس (آذار) عام 1963 مسألة في غاية الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة.

لم يكن البعثان، البعث السوري والبعث العراقي، على أي وفاق ولو بالحدود الدنيا، بل ولقد بقي الصراع بينهما محتدماً منذ ذلك الافتراق الكبير عندما نفذت مجموعة وصفت نفسها بأنها يسارية، واتهمت «القيادة القومية» وعلى رأسها «الرفيق المؤسس» ميشيل عفلق بأنها يمينية، حركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966 التي أعقبها انقلاب عسكري أبيض قاده الرئيس السوري السابق حافظ الاسد ضد رفاقه «الشباطيين» في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 أسماه الحركة التصحيحية.

ثم تعزز هذا الافتراق واتسع واتخذ هيئة المواجهات المكشوفة والحرب السافرة بعد وصول جناح «القيادة القومية»، الذي كان فعلياً بقيادة التحالف الثنائي أحمد حسن البكر وصدام حسين وشكلياً بقيادة ميشيل عفلق ومنيف الرزاز، الى سدة الحكم في العراق من خلال ذلك الانقلاب الذي جرى تنفيذه على مرحلتين في يوليو (تموز) عام 1968.

لقد بلغ الصِدام ذروته بعد انقلاب يوليو (تموز) هذا بين دمشق التي كانت ترفع رايات اليسار و«الاشتراكية العلمية» والتحالف الأقرب مع الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية، وبين بغداد التي حملت راية «الشرعية البعثية» ولقد أُزهقت أرواح كثيرة في هذا الصراع وتبادلت العاصمتان «البعثيتان» الهدايا المتفجرة وإرسال المتسللين بالقنابل عبر الحدود، وكان النظام البعثي في سوريا يخصص جزءاً كبيراً من وقته وقدراته وإمكانياته لإلحاق الضرر بالنظام البعثي في العراق الذي كان يبادله هذه التحية بأسوأ منها.

لم يتوقف التآمر المتبادل بين هذين النظامين اللذين كان كل منهما يدعي انه هو نظام البعث الحقيقي وأنه هو الذي يمتلك «الشرعية البعثية»، اللهم باستثناء هدنة لم تستمر طويلاً في عام 1978، كان عنوانها بياناً اطلق عليه اسم «الميثاق القومي»، وانتهت بمذبحة ارتكبها صدام حسين ضد «وجبة» من كبار القادة البعثيين بعد اتهامهم بالتآمر على الحزب «طبعاً»، والسعي لتسليم رقبة السلطة في العراق ورقبة هذا الحزب أيضاً الى «الزمرة الانشقاقية»!! بقيادة حافظ الأسد وحزبه.

مواجهات في كل مكان.. فبالإضافة الى العمليات الإرهابية المتبادلة بين العراق وبين سوريا التي استخدم فيها المتقاتلون كل إمكانياتهم الاستخبارية وكل تحالفاتهم وكل قواهم فقد انخرط البعثان، البعث السوري والبعث العراقي في حروب وتصفيات وتفجيرات وانحيازات تآمرية في لبنان، على مدى عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ولقد شملت هذه التصفيات المتبادلة صحافيين وكتاباً وقيادات حزبية.. ومن بين هؤلاء بلقيس زوجة الشاعر الكبير نزار قباني التي قضت في انفجار انتحاري استهدف مقر السفارة العراقية في منطقة الرملة البيضاء في بيروت الغربية.

عندما كانت دمشق البعثية تختلف مع ياسر عرفات وتبتعد عنه وتتآمر عليه، كانت بغداد البعثية أيضاً تحتضنه وتقف الى جانبه وتدعمه بكل وسائل الدعم، وهذا انطبق على الجنرال ميشال عون وأمين الجميل وعلى كل الأطراف الفلسطينية واللبنانية التي كانت تستخدم كأدوات، في إطار حروب تصفية الحسابات الإقليمية والدولية في تلك الفترة الصاخبة والملتهبة.

لسنوات طويلة بقي بعث العراق يحاول إطاحة بعث سوريا وبقيت دمشق البعثية تستهدف بغداد البعثية، وكان اكبر تحدٍ بين البعثيْن والعاصمتين البعثيتين عندما اندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية، في مطلع ثمانينات القرن الماضي، حيث تحالفت سوريا مع إيران وحيث لم تتورع صواريخ «الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة» عن قصف عاصمة العباسيين التي تتوسطها قيادة قومية على رأسها ولو شكلياً «الرفيق المؤسس» ميشيل عفلق، وترفع الشعار ذاته الذي ترفعه عاصمة الأمويين البعثية: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة».

حربٌ كحرب داحس والغبراء خاضها «البعثان»، بَعْثُ دمشق وبعْثُ بغداد ضد بعضهما بعضاً، ولقد انتهكت خلال هذه الحرب التي امتدت أكثر من عقدين كل المحرمات من تفجير السيارات المفخخة في الشوارع الى زرع القنابل في الفنادق، الى حلقة طويلة السلسلة من الاغتيالات، الى تحالف كل خصم مع خصم خصمه رغم ما بينهما من تعارضات وتناقضات.

وأيضاً وبالمقدار ذاته فإن كل بعثٍ من هذين البعثين قد بادر بالإضافة الى حروبه مع البعث الآخر الى القيام بسلسلة تصفيات داخلية ضد رفاقه، وضد الاعضاء في التنظيم ذاته، وذلك الى حد إنه يمكن القول ان الذي طبق قانون «اجتثاث البعث» هم البعثيون أنفسهم. فبالإضافة الى مواجهة «بعث» صدام لبعث حافظ الأسد فإن كلاً من البعثيْن لجأ الى اجتثاث بعثييه الداخليين الذين خالفوه الرأي أو باتوا يشكلون خطراً على نفوذه وانفراده بالسلطة.

ولعل ذروة «التراجيدا» بالنسبة لهذا الامر ان دمشق البعثية أصدرت، في ذروة اشتداد صراعها مع بغداد البعثية، حكماً غيابياً بالإعدام على ميشيل عفلق الذي هو مؤسس هذا الحزب وأمينه العام لسنوات طويلة، وكذلك فإنها اتهمت بأنها هي التي وقفت وراء اغتيال المؤسس الثاني صلاح البيطار في باريس... هذا في حين ان المؤسس الثالث الذي هو أكرم الحوراني قد أدركه الموت في عمان ودفن فيها بعد رحلة عذاب طويلة، وهجرات متلاحقة قادته الى عواصم عربية وغير عربية كثيرة.

وكما حصل مع ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني وصلاح جديد ونور الدين الآتاسي وجلال السيد وإبراهيم ماخوس والدكتور يوسف زعين وقائمة طويلة من أقدم قادة هذا الحزب حصل الشيء نفسه مع سلسلة طويلة مع كبار البعثيين العراقيين الذين ساقهم صدام حسين الى ميادين الإعدامات في «وجبات» متلاحقة والذين فجر «الرفيق الضرورة» بكواتم الصوت رؤوسهم وثقَّب صدورهم بالرصاص، ومن بين هؤلاء حردان التكريتي وعبدالكريم مصطفى نصرت ومهدي عماش ومنيف الرزاز ومحمد عايش وعبدالخالق السامرائي وزكريا مشهدي وعدنان الحمداني... وغيرهم.

والآن وإذْ تُحاصَرُ سوريا على هذا النحو بعد مغامرة غير موفقة في لبنان، بعد نحو عامين ونصف من سقوط نظام بعث العراق، في أعقاب مغامرة حمقاء ومشبوهة في الكويت، فإنه يمكن القول ان هذا الحزب الذي استقطب جزءاً كبيراً من الشباب العرب، بشعاراته وأحلامه وببلاغة شعرائه وبخاصة في عقد خمسينات القرن الماضي، قد انتهى نهاية مأساوية بالفعل..!.