لبنان .. وامرأة قيصر

TT

مـا كــادت أيام معدودة تنقضي على جلسة العتاب بين رئيس الحكومة اللبنانية، فؤاد السنيورة، ووزير الخارجية السوري، فاروق الشرع في برشلونة ـ وهي الجلسة التي أعادت مزارع شبعا، «شفهيا»، الى داخل خريطة لبنان ـ حتى زال مفعول «صابون القلوب» بسرعة مذهلة وعاد المطلقان الحديثان، لبنان وسورية، الى سيرة المناكفة والخصام.

إن كان يجوز تقويم الخصام الجديد على هدي مقولة «والبادي أظلم» يجوز التذكير بان دمشق اتهمت لبنان، دون أي مقدمات أو معطيات، بانه ضالع في مخطط جهنمي «لفبركة» شهود زور بدلاء للشاهد السوري حسام طاهر حسام كي يدينونها أمام لجنة التحقيق الدولية... فردت بيروت بالاعراب عن «أسفها» لانحدار أسلوب التعامل السوري الرسمي مع قضية اغتيال رفيق الحريري «إلى هذا المستوى»، والتذكير بان «فبركة» الشهود والوقائع ليست من عاداتها ولا من شيمها.

بعد هذه الوقيعة بساعات اكتشفت بيروت، في صدفة خير من ألف ميعاد، مقبرة جماعية سرية لا تبعد أكثر من أمتار معدودة عن المقر السابق لجهاز الاستخبارات السورية في عنجر.

ورغم ان التقارير الصحافية أو السلطات اللبنانية لم تتحدث عن مسؤولية سورية عن هذه المقبرة الجماعية، سارع «مصدر مطلع» في سورية للاعلان، عبر موقع إلكتروني، ان « بعض اللبنانيين يحاولون بأي طريقة كانت توريط سورية واتهامها»، فيما اعتبر مصدر اعلامي ـ لا بد وان يكون «مطلعا» هو الآخر ـ ان المقبرة هي«نتيجة الحرب الاهلية الطاحنة في لبنان». أما المعلق السياسي للاذاعة السورية الرسمية فقد أكد أن الحديث عن المقبرة «حملة مسعورة» ممن اسماهم «أصحاب الاقنعة» في لبنان لتكذيب «الوقائع والاسماء والمعلومات التي أدلى بها الشاهد حسام طاهر حسام».

مهلا يا جماعة التصعيد في الاعلام السوري: لماذا استباق التحقيق في موضوع المقبرة الجماعية في عنجر في وقت لم تؤد فيه محاولة استباقه في قضية اغتيال الحريري إلا الى المزيد من التدهور في علاقة البلدين الشقيقين؟

إذا كان اسلوب دمشق ـ كما يبدو منذ خطاب الرئيس بشار الاسد في جامعة دمشق الشهر الماضي ـ الانتقال من موقف الدفاع الى موقف الهجوم في التعامل مع لجنة التحقيق الدولية، فليس من الضروري ان تصيب شظايا الهجوم العلاقة اللبنانية السورية في الصميم.

وبعد ان بلغ «ابغض الحلال» بين البلدين هذا المستوى من الحدية ـ ولا نقول التأزم ـ فإن اسوأ ما قد يستتبعه هذا الطلاق هو فتح ملف «الوجود السوري» في لبنان... والكل يعرف انه ملف حافل بالشجون اكثر مما هو حافل بالشؤون. ورغم ان أي مسؤول لبناني لم يتهم سورية بانها مسؤولة عن مقبرة عنجر، فهذا لا يعني، بالمطلق، ان سورية كامرأة قيصر، فوق الشبهات.

وإذا كان صحيحا ان لبنان مر بحرب اهلية طاحنة لم يقصر أي من فصائلها في ممارسة فن القتل والتقتيل، فان الصحيح ايضا ان ضحايا القبر الجماعي في عنجر ـ التي ينسبها «المصدر السوري المطلع» في موقع «سيريا نيوز» الى اعدامات نفذتها «حركة فتح/ المجلس الثوري» بين عامي 1986و1991 ـ حدثت إبان سيطرة القوات السورية على منطقة البقاع ...

قد تكون مشكلة السياسيين، اينما كانوا، انهم يعملون ليومهم. ولكن تسلسل الايام يتحول الى سجلات في صفحات تاريخ.

لذلك، ومخافة ان يسجل التاريخ يوما ان تعامل دمشق الفوقي مع لبنان، منذ انسحاب القوات السورية من اراضيه، دفعه أكثر فأكثر الى احضان الغرب وأبعده أكثر فاكثر عن محيطه العربي، لا بد من وقفة تأمل عميق في مصير هذه العلاقة تتجاوز الهم السياسي اليومي لدمشق ولبيروت معا الى آفاق رؤية مسقبلية لحكم التاريخ على الأبعاد الاقليمية للطلاق اللبناني ـ السوري.