أحمد الجلبي.. هاجس الريادة والمكانة

TT

برز أحمد الجلبي نجما في المعارضة العراقية أثناء مؤتمر بيروت (1991)، يوم تآلفت النقائض، العمائم والأفندية، من كل الاتجاهات. بعدها حقق الشهرة عبر الخصوم، وما حبرته الصحافة العربية ضده، وما زال أحد كُتاب الأعمدة اليومية يسد فراغ عموده بتجريحه. نال هو التعاطف، ونالت هي سأم القارئ. كان يرد ببرودة على اتهامات موالها: سرقة المال والعمالة. كان الجلبي، في زحمة ما يقال ويكتب ضده، مشغولاً بإقناع الأمريكان لإسقاط دولة البعث عسكرياً، وبالنظر في سِفر إعادة أعمار ألمانيا بعد النازية. وربما كانت فكرة اجتثاث البعث من إيحاءات ذلك السِفر.

ولهول الهجاء والتعريض، لم يتمالك أحدهم نفسه عندما شاهد الجلبي في حفل تأبين، صاح: «لا لعملاء أمريكا»! لحظتها التفت الجمهور صوب الهتاف، إلا الجلبي استرسل بكلمته التأبينية غير مكترث. ومن المفارقة عاد الهاتف إلى بغداد، ورشح نفسه في الانتخابات، وقدم قائمته أسوة بالجلبي، وأسس مؤسسة أفاد بها البغداديين. قال صاحبنا، بعد الفراغ من التأبين: «أول مرة أرى الجلبي على الطبيعة، فما تمالكت».

ربما يشعر الجلبي في سيرته بالغبن، وهو ينظر إلى الآخرين يقطفون ثمار مشروعه في إسقاط دولة البعث عسكرياً. وأمسى نائباً لمَنْ ظل يعترض على المشروع حتى قُبيل الحرب. هذا وقد جرت العادة أن يتبوأ قائد الانقلاب المركز الأول، ثم يأتي الأقربون. لكن هذه المرة حصل شذوذ في السياسة العراقية، ومن المحتمل أن يكون قائد الانقلاب بلا مقعد في البرلمان القادم! حسب الجلبي حسابه وجرب اعتلاء منصة الطائفة، رغم علمانيته واطلاعه على حقيقة الخلاف المذهبي وما يحويه من ملفقات.

أخذ يتحدث في الحقوق الشيعية من دون الرغبة بدولة دينية، مبادراً إلى تأسيس البيت الشيعي، ثم هندسة الائتلاف العراقي الموحد، الذي أُخرج منه، وهو صاحب الفضل بوجوده. ولم يسمع استجارة آل الخوئي، وهو يجالس قاتلي عميدهم، ويظهر على الشاشة يجاريهم في الضرب الأرستقراطي على الصدور في عاشوراء. غير أن السعي الطائفي المحسوب لم ينسه تذكير الطرف الآخر. لهذا سبق إلى مجالسة هيئة علماء المسلمين، ومواجهة تعصب رئيسها بما كان بين أخيه رشدي وخميس الضاري من وشائج، وهما المرشحان في قائمة واحدة أوان العهد الملكي.

إن حاول الجلبي جعل الحق الشيعي ممراً إلى بلوغ المرام، ربما العراقي لا الشخصي فقط، نسى مكانة أسرته في عهد مارس الطائفية، من سن قانون الجنسية والتمييز الملموس، حتى وصلت ذروتها في ما بعد. كان جده عبد الحسين الجلبي وزيراً مزمناً وعضواً في مجلس الأعيان حتى وفاته (1939)، ووالده عبد الهادي الجلبي (ت1988) وزيراً ونائباً لرئيس مجلس الأعيان حتى (تموز 1958)، كذلك توزر أخوه رشدي الجلبي (ت1998) عدة مرات. وخلع العثمانيون لقب الجلبي الأرستقراطي (كلمة تركية تطلق لتعظيم الأعيان) على عائلته، لمركزها المالي والاجتماعي، رغم سلوكهم الطائفي ضد الشيعة. ولحظوة الأسرة نزل الملك فيصل الأول، أول وصوله بغداد، قصر جده.

كانت لآل الجلبي أملاك واسعة، حتى أن مدينة الحرية، غربي بغداد، عُرفت سابقاً بمدينة الهادي، نسبة لوالده، الذي نجا مما حصل في صبيحة 14 تموز 1958 (ثورة بزعامة عبد الكريم قاسم) لتواجده صدفة بطهران. أخبرني أحد الكسبة المؤجرين من أملاك آل الجلبي بشارع الرشيد، أن والد أحمد طرده من محله، وعمد إلى إهانته وتهديده عندما راجعه بمكتبه، وبذلك أغلق باب رزقه الوحيد. إلا أن صاحبنا، وهو شيعي متضرر من قانون الجنسية الملكي ومن التهجير البعثي، راح يبحث عنه يوم الثورة ضد العهد الملكي ليقتص منه، ومعلوم ماذا يعني القصاص في تلك اللحظات المجنونة!

تطرح هذه الخلفية أن تفاعل الجلبي الطائفي لم يؤخذ بجدية حتى داخل الائتلاف الشيعي، مثلما لم يؤخذ عداؤه المفاجئ للأمريكان بجدية، بعد أن رمى بكل ثقله لإقناعهم بالحل العسكري، ثم حاول تغيير الصورة أمام العراقيين بافتعال مواجهات معهم! والهتاف ضد الاحتلال.

يعلم الجلبي، وهو من أذكياء العراق، أن العراقيين أسرع إلى الطاعة وأسرع إلى العصيان أيضاً، ولا بد من مجاراة أمزجتهم. جاء في وصية معاوية بن أبي سفيان لولده يزيد: «انظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عَزْلَ عامل أحب إليّ من أن تشهر عليك مائة سيف» (تاريخ الأمم والملوك). أجد في هذه الوصية اعترافا، سبق زمانه، بأن عدم تأبيد الحكومات علاج لأمزجة العراقيين، الذين قال فيهم ابن أبي الحديد: «شبه معترضة في المذاهب» (شرح نهج البلاغة).

قد راود الجلبي أنه صاحب ريادة في النصر على دكتاتورية عاتية القسوة، وهذا صحيح. وأن تأبيد الحظوة الحكومية من حقه. فلم يمر على نشر قصة «زبيبة والملك»، التي تنبأت أن جلبياً سيقود الجيوش، سوى شهور حتى طل الجلبي على صدام بسجنه وجهاً لوجه. ولا ندري ماذا جال في الدواخل من هواجس في تلك اللحظة؟ ولا يهم إن كانت الإطلالة بصحبة الحاكم المدني الأمريكي أم من دونه، ألم يرفع الأمريكان صداماً وشيوخه إلى السلطة! وقبلها، ألم يأت البريطانيون بفيصل بن الحسين ملكاً! ويتملقهم طالب النقيب من أجل العرش!

وبما أن الاستحقاق الانتخابي ليس هو الأمثل بالعراق، فلا بد أن يحسب الجلبي حسابه خارج صناديق الاقتراع، التي لم يؤثر فيها الترغيب بقائمته: «كل عراقي يأخذ حصة من النفط». كان صاحب الفضل في التذكير بهذا الحق صاحب العِمامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت1954)، قالها لنوري السعيد: «لكل عراقي حصة من نفط العراق، وما أخذته لبناء مدرستنا العلمية من الحديد هو جزء ضئيل من حصتي» (أساطين المرجعية العليا).

لقد تنازلت مكانة الجلبي كثيراً وهو يناقض لبراليته وخطابه في وحدة العراق، بهندسة الضرر الطائفي الإقليمي، وباعتماده على حاشية أسرعت إلى اغتنام الغنائم، هزت صورته بين العراقيين، مع أنه صاحب رصيد علمي وثقافي وحظوة دولية، قلما امتلكها سواه، ومن رجال المرحلة بحق.

[email protected]