بعد اربعة أشهر على ثورة الجياع والضواحي المهمشة في فرنسا، نشهد اليوم ثورة ثانية ليس لأبناء المغتربين المحتقرين وانما لأبناء الفرنسيين انفسهم. فما هو سبب ذلك يا ترى؟ لن ادخل في التفاصيل الصغيرة التي تنقلها وسائل الاعلام كل يوم عن هذا الموضوع. فمن الواضح ان عقد التوظيف الأول الذي يريد رئيس وزراء فرنسا فرضه على البلاد يمشي لصالح أرباب العمل الذي يشتغل خادما عندهم ككل الحكام بمن فيهم حكام اليسار وان بدرجة مخففة او ملطفة نسبيا. ولهذا السبب اشعل نار الحقد لدى الشبيبة والنقابات العمالية التي ترى في أرباب العمل الرأسماليين المتخمين عدوها الأول.
فرؤساء الشركات الكبرى العابرة للقارات يعتبرون انفسهم سادة العالم وينبغي على الجميع ان يطأطئوا رؤوسهم أمامهم. انهم الطبقة الاقطاعية، والرأسمالية والارستقراطية الجديدة التي تتحكم بمصير العالم. وهكذا، وبعد ان قطعت الثورة الفرنسية رؤوس الطبقة الاقطاعية السابقة قبل مائتي سنة، حلت محلها طبقة اقطاعية جديدة لا تقل شراهة ومصا لدماء الشعوب. لكيلا يظل كلامنا تجريديا في الهواء يكفي ان نذكر هنا رواتب بعض ارباب العمل الفرنسيين، أي مديري الشركات الكبرى. مدير شركة «لوريال» السيد لاندسلي اوين جونز يبلغ راتبه السنوي اكثر من (6.5) مليون يورو: أي بمعدل نصف مليون يورو في الشهر. اما مدير محلات «كارفور» التي فتحت لها فروعا عديدة في العالم العربي فلا يزيد راتبه عن الثلاثة ملايين يورو سنويا. وهو يأتي في المرتبة الرابعة بالنسبة لرؤساء الشركات الفرنسية. وقس على ذلك.
ويمكن ان نضيف الى رواتب هؤلاء رواتب المطربين الكبار والممثلين المشهورين وكبار الصحفيين الذين يشتغلون في وسائل الاعلام. وهي خيالية ايضا. فراتب مدير البرامج مثلا في القناة الأولى للتلفزيون الفرنسي «باتريك لولي» يبلغ مليونين ونصف المليون يورو سنويا او اكثر قليلا.. وأرباح الممثل الشهير جيرار دوبارديو تجاوزت هذا العام الثلاثة ملايين يورو.
مختصر القول انه تشكلت طبقة في فرنسا من المشتغلين في «الشو بيزنيس» والقطاع الخاص والوظائف العليا. وهي تعيش حياة خيالية مليئة بالاسراف والبطر والبذخ. وهذا الشيء يعرفه الشعب الفرنسي جيدا. وقد حصلت فضيحة كبرى في العام الماضي عندما عرف الفرنسيون حجم رواتب ارباب العمل وسواهم من ابناء الطبقة العليا.
ولذلك فان النقمة عارمة في اوساط الشبيبة التي وصلت نسبة البطالة لديها الى 23 في المائة. هذا دون ان نتحدث عن شبيبة الضواحي من المهاجرين والذين لا هم لهم الا التسكع في الشوارع ليلا نهارا فقط الى درجة انهم ولدوا عصابات ترعب الناس. والسبب واضح: فالبطالة تشمل اربعين او خمسين بالمائة منهم على الأقل. والأنكى من ذلك هو انهم يعرفون ان الآفاق مسدودة كليا أمامهم ولن يدخلوا سوق العمل في فرنسا في أي يوم من الأيام. وبالتالي: فعلي وعلى أعدائي يارب!.
نسيت ان اقول بانه تشكلت في فرنسا ثلاثمائة عائلة جديدة على أنقاض العائلات الارستقراطية القديمة التي أطاحتها الثورة الفرنسية من دوق، وبارون، ومركيز... وهكذا عدنا الى الاستعباد والاقطاع من جديد ولكن بشكل آخر بالطبع. هل نعلم مثلا ان اغنى عائلة في فرنسا (ليليان بيتنكور) تبلغ ثروتها اكثر من خمسة عشر مليار يورو؟ تتلوها عائلة بيرنار آرنو (اكثر من اربعة عشر مليار يورو). تليها عائلة مارسيل داسو صاحب مصانع طائرات الميراج الشهيرة: عشرة مليارات يورو فقط.
والحبل على الجرار.. وهؤلاء لا يفكرون الا في زيادة ثرواتهم. وكلما زادت نقصت موارد الطبقات الوسطى والشعبية والعمالية: اي اغلبية الشعب الفرنسي. وبالتالي فهناك سبب لهذه الانتفاضات التي اخذت تتكرر بشكل مقلق في فرنسا: انه الظلم واللامساواة وانعدام العدل. فالهوة تزداد اتساعا بين الاغنياء والفقراء في بلاد التنوير والثورة الفرنسية وحقوق الانسان!.. وعلى الرغم من ان انتفاضة الضواحي قد هدأت او قمعت الا انها لم تلق لها اي حل حتى الان. الكل يعرف ان الضواحي الفقيرة بحاجة الى خطة مارشال اقتصادية لانقاذها. ولكن الطبقة السياسية الفرنسية بيمينها ويسارها عاجزة عن اتخاذ القرارات الصعبة. فهي لا تريد ان تغضب ارباب العمل والطبقات العليا المهيمنة في المجتمع الفرنسي. وبالتالي فلم يبق امام الشبيبة الى الانفجار: أي النزول الى الشارع وتحدي النظام القائم الجائر..
لقد مارس جاك شيراك اكبر خديعة على الشعب الفرنسي عندما ركز كل حملته الانتخابية الاولى عام 1995 على معالجة الصّدْع الاجتماعي في فرنسا: أي الفقر والبطالة واتساع الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون. ولكن بعد ان انتخبه الشعب رئيسا راح يدير ظهره لكل هذه الوعود الانتخابية ويمارس سياسة يمينية لصالح الرأسماليين والاغنياء. وهكذا ضحك على الشعب بعد ان نال ما اراده.
ولكن الشعب الفرنسي عريق وذو تجارب ثورية وتاريخية من اغنى التجارب في العالم. ولذلك فلن يسكت عليه وسوف يلقنه درسا قاسيا العام القادم عندما سيخرجه من الحكم بعد انتهاء ولايته. وهناك فرصة ذهبية الان امام قوى اليسار لكي تعبّئ صفوفها وتكتسح الانتخابات الرئاسية القادمة وتنفذ برنامج الاصلاحات الحقيقية والعدالة الاجتماعية التي تبدو فرنسا بأمس الحاجة اليها الآن واذا لم يحصل ذلك فإن فرنسا سوف تصبح مهددة بالفعل.
فالإقطاع الرأسمالي والمصرفي الجديد الذي يسيطر على فرنسا والعالم كله ليس معصوما وانما يمكن اسقاطه او على الاقل تحجيمه اذا ما تضافرت كل الجهود الخيرة من هنا أو هناك. ويرى المفكر السويسري المعروف جان زيفلير ان الغرب خان المبادئ الحقيقية لحضارة التنوير والثورة الفرنسية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية على الرغم من انه يتبجح بها صباح مساء!.. لقد خانها عندما أسس نظاما اقتصاديا قاتلا بل ومجرما تحت اسم العولمة الكونية الشاملة. فهذا النظام يقتل يوميا مائة ألف شخص في شتى انحاء العالم الفقير من آسيا، الى افريقيا، الى اميركا اللاتينية.
هذا النظام الخائن لكل مبادئ الحضارة والنزعة الانسانية هو الذي يجعل المرأة البرازيلية تطبخ الحصى موهمة أطفالها الجوعى بأنها تطبخ لهم وجبة الطعام وتسوّفهم ساعة بعد ساعة آملة بأن يناموا قبل ان تنضج الطبخة الفارغة!.. هذه هي امبراطورية العار والشنار التي يقودها الآن جورج بوش وشارون (رجل السلام!) وبوتين وسواهم من قادة العالم المتغطرس. وهم الذين ينمون الارهاب والحركات الاصولية المتشددة عن طريق تجويع البلايين ودفعهم غصبا باتجاه بن لادن والزرقاوي.. فالقضاء على التطرف او تجفيف ينابيع الارهاب لن ينجح ابدا الا اذا تم تجفيف ينابيع الفقر والقهر والتهميش التاريخي الطويل لثلاثة ارباع البشرية. متى يفهم الغرب الأناني الشره والمتعجرف هذه الحقيقة؟
وبالتالي فكل النظام السياسي والاقتصادي للعالم ينبغي تغييره اذا ما اردنا ان نضع حدا للكره والحقد وصراع الاديان والحضارات. وعيب على أميركا، أغنى دولة في العالم، ان يكون فيها اربعون مليون جائع وفقير! ولا يمكن ان تصبح حضارة اذا ما ظلت تحرم ملايين الفقراء من الضمان الاجتماعي والصحي: أي الاستطباب في حالة خطر الموت.. من هذه الناحية تظل اوروبا افضل منها وأكثر انسانية. نعم ينبغي وضع حد للرأسمالية المتوحشة اذا ما أردنا ان نصل الى نظام عالمي أكثر عدالة وانسانية، نظام يستحق بالفعل لفظة: حضارة.