تأتي أهمية فتح ملف الجماعات السلوكية أو السالكين، كتتمة لما كتبناه حول جند السماء، من سرعة تفشيها بين البسطاء، عبر التواجد بينهم، أو عبر وسائل إعلامها المتنوعة: إنترنت، صحف ورقية، إذاعات، ومقرات. ومن مخاطرها الحالية أصبح السلاح الناري بيدها. فقبل أيام حصلت معركة بين جماعة، وصفت بالسلوكية، وبين عناصر جيش المهدي بمدينة الشطرة ـ الناصرية. تُنبئك هذه المعركة، وبعدها معركة جند السماء، وشدة المظاهر الدينية مع شدة بالفساد، أن هناك شبحاً يجول في قرى العراق ومدنه اسمه السلوكية، وخطورته أنه يخضع الأتباع عبر المقدسات!
وباختصار شديد، يُنسب إلى الجماعات السلوكية، وهي في الأصل جماعات دينية صوفية أو سياسية، الانحراف بتفسير الآية «واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» (الحجر 99). بمعنى أن الغاية من العبادة هي الوصول إلى لحظة اليقين ثم عدم لزومها، ففيها يتحقق المبتغى من العبادة. وهي فكرة بشطحاتها لا تخرج كثيراً عن مؤثرات صوفية خاصة. وبهذه الصلة مارستها شخصيات كان لها حضور في الحركة الإسلامية الكوردية العراقية، لها دورها بتأسيس حزب الله هناك، والذي انحل في ما بعد.
كذلك من ممارسات السالكين إرغام نفس المؤمن على ما تكره، على أنه الجهاد الأكبر، فالنفس المؤمنة تكره ارتكاب المعاصي، ولا بد من مخالفتها بارتكابها. وما يخص الجانب الشيعي تلتقي السلوكية مع جماعة حاربها آية الله الخميني، وهي الحجتية بإيران، تدَّعي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المعاصي سيؤخر ظهور الإمام المهدي، لذا لا بد من استفزازه ليظهر سريعاً. والسلوكية عموماً «يسمحون لأنفسهم بترك الواجبات كالصلاة والصوم، وفعل مختلف المحرمات تحت شعار الوصول إلى درجة اليقين، وانتظار المهدي ورؤيته» (الأسدي، الصدر الثاني).
وابلغني أحد العارفين، عبر رسالة شخصية من بغداد، أن ظاهرة السالكين أو السلوكيين ظهرت في السنوات الأخيرة من النظام السابق، في منطقة الزعفرانية من بغداد، إلا أنها لم تكن حركة مسلحة، وألقي القبض على أتباعها، وأُطلق سراحهم، لعدم أهميتهم. يُذكر أنها بدأت حول السيد محمد محمد صادق الصدر (اغتيل 1999)، إلا أنه رفضها، وخصص خطبة أو خطباً لنقدها. ولمقتدى الصدر رأي ضدهم، جاء فيه: «أن يقاطعوا هؤلاء ويتبرأوا منهم، ويبتعدوا عنهم بُعد السليم عن الأجرب» (29 ربيع الثاني 1427). ومن هؤلاء مَنْ اعتقد أن الصدر الثاني هو المهدي المنتظر. وآخر اعتبره محمد النفس الزكية، وهو أحد المهديين، كما هو معروف في الرواية. وأحدهم كان يُقدم محاضرات «في حلول أرواح الأئمة» (المياحي، السفير الخامس). وآخر يقف أمام صورة الصدر ويخاطبه بالقول: «متى تُقتل ونرتاح بخروج الإمام»، على خلفية أن المهدي لا يخرج إلا عقب كارثة!
من المعلوم أن للخواء الثقافي، والعسر الاجتماعي، دوره في إشاعة مثل تلك الممارسات، وليس غريباً أن تجد لها جماهير تلتف حولها، فما حصل بالعراق من قبل، وما يحصل اليوم، خلق مناخاً مناسباً لتبنيها، تلك التي لم تكن معروفة في المجتمع العراقي، وبهذا الحضور. فمن طبائع العامة الانقياد، لما يسمعونه في خطب المسؤولين وتصريحاتهم وممارساتهم، فالسحل لم يبدأ بعد تموز 1958 إلا بخطبة مسؤول كبير أذيعت في الراديو: «اسحلوهم»! ويعني أقطاب العهد الملكي. وإن كان المقصود به مجاملة السواد، إلا أنه يصبح تلقائياً واقعاً، وقناعات مدمرة لا تهتز بسهولة.
ولا أظن أن هناك تربة أكثر خصوبة لها من ظاهرة لبس الأكفان، والتفنن بأداء الخطاب الديني، وشدة المناحات وإشاعاتها بهذه الغزارة، وسطوة النفاق الديني عبر الإعلام، وكثرة ظهور المعممين على الشاشات، وهم يدلون بمعلومات وآراء مشوهة للعقل، والحياة المدنية عموماً، وتضرب الألفة الاجتماعية المرجوة. فماذا تنتظر من معمم مملوء بفكرة التكفير يتحدث عن الأعياد عند الأديان الأخرى، وبمناسبة عيد الميلاد، وعبر الفضائية العراقية! أو يظهر معمم آخر خطيباً مرتدياً للكفن يحيطه الحراس المكفنين أيضاً، وكأن أهل العراق لا ينقصهم إلا الانتحار الجماعي. أما سلوكية الجماعات الدينية المتشددة في غرب العراق، والذين يطرحون أنفسهم كمجاهدين، فشأنها آخر، فضحتها العائلات السُنَّية التي هربت من جحيم عصابات البصرة إلى الفلوجة والمدن الأخرى، التي تهيمن عليها تلك الجماعات، فما أن وصلوا حتى طُلب منهم تزويج بناتهم للمجاهدين، فعادوا أدراجهم، وقالوا الموت بالبصرة أرحم وأعف! ومن المعلوم، لا تقتصر فكرة الانتظار، وادِّعاء شخصية المهدي المنتظر على الجماعات الشيعية وحسب، بل لأغلب الأديان والمذاهب مهديوها، والجماعات التي تستعجل ظهوره. قيل ادعى شاب، بُعيد انتفاضة 1991 بكوردستان العراق، أنه المهدي المنتظر، وصدق به رهط من الناس، إلا أنه قبل أن ينفذ إلى عدد أكبر قتله الإسلاميون الكورد. وهذه الأيام ظهر مهدي بالسودان، يُعرف بالشيخ الخير زكريا، ينتمي إلى الطريقة القادرية، ثم سلك طريقة أخرى تدعى السمانية. وجه بيانه «من الإمام المهدي المنتظر بالسودان إلى كل مسلمي الأرض». وكما هو الحال أن كل دعوات وجيوش المهدي تنطلق من محاربة أمريكا!
ومع ذلك، ما يجري بالعراق حالياً ينطوي على خطورة صارخة، خصوصاً أن هذه الجماعات أخذت تستغل ظروف البلد المحرجة، والتساهل في الجمع بين إشاعة الخرافة وحمل السلاح، وهناك مَنْ يسلح من خارج الحدود. إضافة إلى خطورتها بتملك وسائل الإعلام، وسرعة الاتصال، ففي الأزمنة السابقة كان يتواجد الدرويش، والداعي إلى المهدي، والمحارب باسم الجن وغيرهم، غير أن تأثيرهم لم يخرج عن نطاق الوادي أو القرية، أما الآن فقد امتلكوا مواقع في الإنترنت، وفضائيات، وصحف، وإذاعات، ونشر كتب، ومن هنا سيكون التقدم العلمي والديمقراطية سيفا ذا حدين، إذا لم يدعما بضوابط تحمي المجتمع من الانهيار!
وكيف السبيل، والدولة عطلت وزارة الثقافة، وجعلت السياحة دينية لا مجال آخر فيها، وليس في المكتبات الجامعية سوى الكتب الدينية، ذات المتخيلات الخرافية، ولا تظهر في الشارع غير الصور الدينية، وعمدت السلطات المحلية في المحافظات، البصرة مثلاً، إلى غلق المقاهي، والنوادي، ودور السينما، وأخذت تطارد الموسيقيين والفنانين، وليس الشعر إلا الشعر الحسيني، فماذا يُنتظر لهذه الأمة غير إشاعة فكر مثل الفكر السلوكي! يصعب فهم حال الدولة حالياً، وتعهدات الأحزاب الدينية بسياسة مدنية فيها، وتجد أحدهم يصرخ في البرلمان أثناء مناقشة قانون (عدة) المرأة بعبارة «تنفيذاً للحكم الإلهي»! وكتحصيل حاصل يحسب على الجماعات السلوكية المتشددين بالمظاهر الدينية، والمتساهلين مع الفساد الإداري والمالي كافة. أحسبهم يخضعون للمنطق نفسه!