ماذا تريد حماس؟

TT

رحم الله شاعر اليمن الراحل عبد الله البردوني، القائل في قصيدة «الغزو من الداخل»:

فظيع جهل ما يجري

وأفظع منه أن تدري

وهل تدرين يا صنعا

من المستعمر السري

غزاة لا أشاهدهم

وسيف الغزو في صدري

لقد نظم البردوني هذه القصيدة لنقد أوضاع يمنية معينة، وللكشف عن أوضاع غير يمنية تتلاعب بمصير اليمن، ولكن مثل هذه الأبيات تعبر حقيقة عن حال عالم العرب بشكل عام، حيث أنه فعلاً فظيع جهل ما يجري، وأفظع منه أن تدري، وهو ما ينطبق على ما يجري على أرض غزة هذه الأيام، وما تفعله حماس بأهل غزة، قبل أن تكون إسرائيل هي الفاعل. فكيفما نفكر في المسألة، نجد أنها عصية على الفهم، وذلك حين يكون العقل هو معيار الفهم. فحماس هي الآمر الناهي في غزة اليوم، ولكن كل مقومات الحياة هناك تأتي من إسرائيل وتعتمد على إسرائيل. فمن خلال معابر معينة تتدفق السلع من إسرائيل إلى غزة، ومن خلال ذات المعابر، يتدفق العمال الفلسطينيون إلى إسرائيل للعمل والعودة بأجور تقيم أودهم وأود عائلاتهم، وفي البنوك الإسرائيلية تقبع الأموال الفلسطينية. الحياة في غزة تعتمد اعتماداً يكاد يكون كلياً على ما يأتي من إسرائيل. ورغم خطاب حماس العدائي لإسرائيل، وحتى بعد الانقلاب على سلطة رام الله، بقيت الحياة مستمرة في غزة بفضل المعابر مع إسرائيل، ولم يتغير الوضع إلا حين بدأت صواريخ حماس تنهمر على المستوطنات الإسرائيلية. هذا ليس مدحاً لإسرائيل، فالغطرسة والوحشية الإسرائيلية في العقاب الجماعي أمر لا يحتاج إلى دليل، فالتاريخ الإسرائيلي في دير ياسين وخان يونس وغيرها ليس إلا عينة من تاريخ عنف لا يتوقف، ولكنه إقرار بوقائع مشاهدة وملموسة، إلا لمن أراد تجاهل الحقائق فإن الأمر يختلف بطبيعة الحال، ولا يمكن فهم الوضع إلا بفهم الحقائق والوقائع، وبغير ذلك سنبقى في الوهم ضائعين، ويكون فظيع جهل ما يجري.

في مثل هذا الوضع، وحيث كل شيء يعتمد على إسرائيل كي تستمر الحياة في غزة، وحتى لو كانت غزة معتمدة اعتماداً كلياً على نفسها، فلا تحتاج لمحروقات من إسرائيل كي تسير السيارات في شوارعها، وتنير الكهرباء بيوتاتها ومستشفياتها، حتى لو كان هذا هو الوضع، فهل تقاس قوة حماس بقوة إسرائيل؟ ومن هنا ينبثق السؤال المؤرق: إذاً لماذا تفعل حماس ما تفعل؟ لماذا هذا الخطاب الناري ضد إسرائيل، وهي أول العالمين بأنه مجرد خطاب لا يقدم ولا يؤخر، أو كما وصفه نزار قباني:

إذا خسرنا الحرب، لا غرابة

لأننا ندخلها

بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة

بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة

لأننا ندخلها

بمنطق الطبلة والربابة

ولماذا هذه المفرقعات النارية التي تثير وتستفز ولا فاعلية لها، كما كانت مفرقعات صدام حسين، والتي كانت أقوى بكثير من مفرقعات حماس، والتي أفادت إسرائيل أكثر مما ضرتها إبان حرب الخليج الثانية. لماذا تفعل حماس كل ذلك وتضر أهلها قبل أن تضر أي كائن آخر؟

في ظني أن القضية في ذهن حماس اليوم ليس مصلحة الشعب الفلسطيني، ولا «تحرير كامل التراب الفلسطيني»، بقدر ما أن القضية هي قضية حماس ذاتها، أي قضية وجودها من عدمه. فشعار تحرير «كامل التراب» لم يعد وارداً، وإن كان وارداً، فهو يبقى مجرد شعار، إذ أن إمكانيات الطرفين، وتوازن القوى، لا يسمح بسحق الطرف المراد تحرير الأرض منه. أما مصلحة الشعب الفلسطيني، فهي تكمن اليوم في إعطائه الفرصة للعيش في أمن وسلام.. هنا تكمن كلمة السر: الأمن والسلام. فالصراع اليوم مع كل العالم هو صراع حضاري، وهذا ما يجب أن تفهمه حماس في العلاقة مع إسرائيل، والفوز في صراع حضاري لا يمكن أن يتحقق إلا بالأمن والسلام. وبالتالي فإن بعض الخطب النارية من غزة ودمشق، أو بعض مفرقعات نارية من هنا وهناك، لن تضر إلا بشعب فلسطين، وتمنح إسرائيل الفرصة والمبرر لسحق ما يمكن أن يكون منافساً حضارياً له، أو ما تصورناه نداً حضارياً له.

القضية هي قضية حماس وحدها، ففي الحسابات النهائية، فإن حماس هي الخاسر الأوحد سواء في الحرب أو السلام، وبالتالي ليس لديها ما تخسره، ولذلك هي تفعل ما تفعل. فخطاب حماس وشرعيتها التي قامت عليها ترتكز على «المقاومة»، وتحرير كامل التراب الفلسطيني، فإذا انخرطت في السلام والعملية السلمية، فإن ذلك يعني انهيار خطابها وسقوط شرعيتها، وبذلك تتحول إلى مجرد حزب أو تنظيم ضمن تنظيمات، وهو ذات الوضع الذي يعاني منه حزب الله في لبنان، ولن تبقى حماس هي حماس. لذلك فإن حماس لا بد، ووفق هذا المنطق، أن ترفض السلام ومفهوم السلام أصلاً، لأن السلم والسلام هو شهادة وفاة لها. حماس إذاً لا يمكن أن تستمر، وفق شرعيتها المعلنة وخطابها المؤسس، إلا في حالة التوتر واستمرار الصراع العسكري، أي مفهوم «المقاومة» وفق رؤيتها، رغم علمها بأن ميزان القوى في هذه الحالة ليس من صالحها، ولكن النتيجة في النهاية واحدة. فإن انتصرت، وهو احتمال بعيد جداً يصل إلى مرتبة المستحيل في مثل هذه الظروف، فإنها حققت خطابها المؤسس، وشعارها المعلن. وإن أخفقت، وهو الأقرب للواقع، فإنها ستتحول إلى رمز للمقاومة، في ظل ثقافة شعبوية تمجد الموت وترفض الحياة، وهذا هو ما يهم حماس اليوم، بعيداً عن حديث الأمن والسلام ومصلحة الشعب الفلسطيني. حماس اليوم لا تفكر إلا بنفسها، ولا يمكن فهم ما يجري بدون الأخذ بهذه الحقيقة، وصدق ضرير اليمن وهو يقول: فظيع جهل ما يجري، وأفظع منه أن تدري..