عندما يفشل الإعلام: الفضائيات ودماء العراقيين

TT

تجري اليوم في الولايات المتحدة مراجعة واسعة لعلاقة الاعلام المهيمن بالحكومة الامريكية لاسيما على خلفية تبني المؤسسات الاعلامية الرئيسية لادعاءات الادارة الامريكية عن اسلحة الدمار الشامل لدى نظام صدام بدون تدقيق او رؤية نقدية، ووصل مستوى الحديث عن فشل الاعلام الامريكي في لعب الدور الذي يفترض ان يلعبه في مراقبة الحكومة الى حد اعتذار النيويورك تايمز علنيا الى قرائها لأنها لم تسأل الاسئلة التي كان يجب ان تسألها عن اسباب غزو العراق.

بالطبع لا اطالب الاعلام العربي بان يقوم بذات المراجعة لمعاييره وطروحاته مدركا ان هذا الاعلام في جله لا يمثل فضاء سياسيا او اجتماعيا مستقلا ولا يمكنه ان يلعب دورا نقديا في وقت تغيب فيه المؤسسات السياسية والاجتماعية اللازمة لصيرورة ديمقراطية سليمة تمنحه مثل هذا الدور، في الوقت الذي يعج الاعلام العربي بقراءات ايديولوجية سطحية للظواهر السياسية القائمة.

لذلك تجد ان العرب لا يعرفون الكثير عن قضايا تدور ضمن حيزهم الجغرافي قياسا حتى بأناس من خارج المنطقة. معظم العراقيين الذين يزورون البلدان العربية او يحتكون بالمواطنين العرب في بلد ثالث او حتى عبر غرف الدردشة الالكترونية يواجهون اليوم بسؤال من نوع هل انت كردي ام عربي، سني ام شيعي، والمشكلة ليست في السؤال بل في المغزى الكامن وراءه لأنه ينطوي على حكم مسبق بالتبرئة او الادانة بناء على ما غرسه الاعلام في الذهنية العربية.

عند الاستماع الى القنوات الفضائية العربية ونشراتها الاخبارية مثلا يتولد لديك الانطباع بوجود مواقف وأحكام مسبقة وراء الاخبار كما اثناء تحليلها، فقبل ايام كنت استمع لنشرة الاخبار في احدى هذه القنوات وكالعادة كانت الاخبار المتصدرة للنشرة عن فلسطين والعراق وهو امر طبيعي بحكم كونهما من اهم بؤر الصراع في المنطقة، لكن ما لفت انتباهي هو ان النشرة الاخبارية وصفت المدنيين الفلسطينيين الذين قضوا على يد القوات الاسرائيلية بـ«الشهداء» والمدنيين العراقيين الذين قضوا بانفجار سيارة مفخخة في احدى المناطق العامة بـ«القتلى»، سألت نفسي عن المعيار الذي يصف بريئا يموت في الاراضي الفلسطينية بالشهيد بينما لا يكون العراقي الذي يلقى نفس المصير كذلك، وتزاحمت في رأسي اجوبة تتجاوز مجرد معرفتي بطبيعة الخطاب الفكري لهذه المحطة تحديدا الى ما ارى انه قبول ضمني وأحيانا معلن يتبناه العقل العربي لتبرير القتل الذي يحصل بيد عربية حتى لو استهدف عربا ايضا (لاسيما ان كانوا عربا مشكوكا بعروبتهم)، انها نفس العقلية التي تعتبر مطالب الاقليات في البلدان العربية بالحقوق السياسية خيانة ولكن مطالب الاقليات العربية والمسلمة في بلدان اخرى بالمشروعة.

قبل بضعة اسابيع نشرت الصحافة العالمية خبرا عن اكتشاف مقابر جماعية شمال بغداد بالقرب من مركز للتعذيب كانت تديره القاعدة يضم ادوات تعذيب كهربائية ويدوية وقد امتلأ المركز بدماء الضحايا، مثل هذا الخبر الذي يكشف عن وحشية وكراهية متأصلتين حظي باهتمام وسائل اعلام اجنبية وقليل من وسائل الاعلام العربية، لكن احدى القنوات العربية التي اقامت الدنيا ولم تقعدها على خلفية مزاعم اتضحت عدم مصداقيتها بتعرض امراة عراقية للاغتصاب على يد جنود عراقيين لم تجد في خبر مركز التعذيب القاعدي ما يستحق الاهتمام!! بالطبع من الشرعي ان تسأل اسئلة من قبيل ماذا لو كان مركز التعذيب هذا خاضع للحكومة العراقية وكيف كانت هذه القناة ستتلقى الخبر وكيف كان مديرو برامجها سيغطونه وستخصص له ساعات طوال من البحث والتحليل والاهتمام، اما اذا كان تابعا للامريكيين فتلك ستكون فضيحة العصر التي ستستثمر فيها القنوات الفضائية العربية مئات الساعات وعشرات البرامج ولكنها بالتأكيد لن تضاهي وسائل الاعلام الامريكية والتي ستخصص ساعات اطول وتغطية اوسع وأعمق كما حصل مع فضيحة ابو غريب.

قد يقول البعض ان القتل يحصل بشكل شبه يومي في العراق وليس هناك ما يجذب الاعلام لأحداث روتينية، وحتى لو قبلنا بمثل هذا التبرير لا بد ان نقول بان الاعلام لا بد ان يستثيره هذا القتل عندما يكون بالبشاعة التي ترتكب بها القاعدة جرائمها، فعندما يتم بقر بطن انسان وتوضع فيه رؤوس اطفاله لا بد لأي اعلام ملتزم غير مدفوع بالكراهية والمواقف المسبقة ان يتوقف مع نفسه لبرهة ويراجع خطابه ليرى ان كان هذا الخطاب ينطوي على اي شرعنة لمثل هذا الوحشية.

المشكلة مع بعض القنوات الفضائية العربية انها تدغدغ المشاعر الغريزية لدى الناس عبر تكريس لأسطورة ان العرب والمسلمين يخضعون لمؤامرة عالمية ظالمة، انها «اسطورة» اكثر من كونها حقيقة لان الظلم الذي يكيله العرب والمسلمون لبعضهم اكبر من اي ظلم اخر قد يتعرضون اليه، ولان الظلم الذي يسلطونه على الاخر المختلف عنهم قد لا يقل عن الظلم الذي يتعرضون اليه، ولكن لأنها اسطورة يراد لها ان تجسد كل ما في الاساطير من تسطيح وخرافة، فهي تقسم العالم الى خير وشر لا مساحة وسطى بينهما، ولان العرب المسلمين هم الخير بالضرورة ولانهم هم المظلومون فان كل ما يفعلونه مبرر ومشرعن، ومع هيمنة هذا المنطق يصبح من الممكن القبول ولو تغافلا بجرائم «القاعدة» في العراق، ويصبح من غير الممكن قطعا ان يكون ضحية هذه الجرائم «شهيدا»، فالشهادة هي للاخيار فقط، والطفل العراقي الذي يقضى بانفجار سيارة مفخخة اثناء توجهه لمدرسته ليس في نظر بعض القنوات الفضائية العربية من هؤلاء الاخيار، على الاقل حتى يثبت ان قاتله ليس عربيا...