ثلوج من هنا.. ومن هناك أيضا

TT

في الغرفة نافذتان متقابلتان: واحدة تطل على الوادي ومنحدراته وغاباته المثقلة بالثلوج، وهي الأكثر هدوءاً. والأخرى تطل على الجبال ومدرجاتها البيضاء ومهابطها الحادة ومئات الأسلاك الضخمة التي تحمل مئات العربات التي تحمل في اللحظة الواحدة آلاف الناس في كل الاتجاهات من أسفل الجبل إلى أعلاه.

الارتفاع؟ لا أدري. ما أدريه هو أن الغرفة المتقابلة للنافذتين تقع على علو 1850 مترا. والأطباء ينصحون الذين يعانون من اضطراب الضغط بعدم تجاوز هذا العلو. وما ذلك في نيتي في أي حال. فإن كل ما ليّ من مواسم التزلج، في أي مكان، هو البقاء في غرفة تطل نوافذها على الثلوج من هنا والثلوج من هناك! وكل الأشياء وخصوصاً الرؤوس، مغطاة بالنفناف الأبيض. رؤوس الناس ورؤوس الأشجار وسطوح المنازل، التي يبدو كل منها وكأنه جبل ثلجي صغير.

كيف تحمل السطوح كل هذه الثلوج كل هذه الأشهر، لا أدري. ربما بحكم العادة. فالذي لا يقدر على تعلم طرق الحياة هنا، لا مكان له إلا دون الألف متر: على ارتفاع 1850 متراً سوف يظل مجرد متفرج، كيفما تلفّت يدرك أن لا علاقة له بما حوله. الجميع هنا ينتمون إلى حياة اللون الواحد ودرجة الحرارة المائلة غالباً إلى ما تحت الصفر. اللون الأبيض طبعاً. فكرت وأنا أسير النافذتين المتقابلتين، ودفء الفنادق الحديثة والسيارات الرباعية والقطارات التي تتحدى الجبال بطيئة كأنها لا تعرف الطريق، أو كأنها تستطلع سكتها للمرة الأولى، فكرت في هنيبعل وفي نابوليون وفي هتلر. الأول والثاني، مرّا من هنا، في زمن ليس فيه قطارات كهربائية ولا سيارات رباعية ولا دفء ولا وقود إلا الحطب. ولا شيء سوى الأفيال والخيول المسكينة والجنود المعذبين الذين أرغموا على القتال في بلاد أخرى وعلى أن يقتلوا ويُقتلوا في أرض بعيدة، مدمرين في طريقهم كل شيء.

ماذا يريد نابوليون من روسيا؟ كان ملازما كورسيكيا صغيرا فصار حاكما على فرنسا فصارا إمبراطورا على معظم أوروبا، فصار يعيّن أشقاءه ولاة على بلاد جميلة مثل النمسا. فلماذا روسيا أيضا؟ ما هي هذه النفس البشرية التي لا يرضيها شيء؟ ولماذا كرر هتلر التجربة نفسها والثلوج نفسها والمحن والمآسي إياها، ففقد أكثر مما قتل، وفي النهاية أفلت جيشا هائلا من السوفيات يغتصب بنات ألمانيا وبنات كل دولة حليفة دخلوا إليها، ثم اقتسموا بلاد الرايش مع الغربيين وتحولت برلين إلى إحدى مدن العار في التاريخ، مقسمة مجزأة، يفصل بين غربها وشرقها جدار هائل، ويفصل بين غربها وبقية ألمانيا عالم من جنود الاحتلال.

لكن أهل الثلج هنا ليسوا من ذلك القبيل. تعلمت أوروبا أمثولتها ولا عودة إلى فرنسي مثل بونابرت أو نمساوي مثل أدولف هتلر، يطلق رجاله إلى القتال في صحراء ليبيا وفي ثلوج روسيا وفي سهول فرنسا، فيقتل الملايين ويشرد الملايين وفي النهاية يطلق رصاصة على صدغه، رافضاً أن يعتذر، قبل ذلك، بكلمة واحدة.