إدارة أوباما: جرأة الاعتدال

TT

إنها مجموعة سخية في اعتدالها، مذهلة في استمراريتها، مثيرة للدهشة في استقرارها.

وتتمثل هذه المجموعة في وزير الدفاع، روبرت غيتس، الذي سبق له ترؤس مدرسة جورج بوش للحكم والخدمة العامة في تكساس. ووزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، التي أيدت غزو العراق وصوتت لصالح قرار نعت الحرس الثوري الإيراني، بأنه منظمة إرهابية، وسبق لها وصف فكرة الدخول في محادثات مباشرة غير مشروطة مع إيران، بأنها «أمر غير مسؤول وبالغ السذاجة». ومستشار الأمن القومي، الجنرال المتقاعد، جيمس جونز، الذي عمل في الفترة الأخيرة في الغرفة الأميركية للتجارة، الذي سبق له العمل مستشارا خاصا لإدارة بوش في ما يتعلق بشؤون الشرق الأوسط، ووزير الخزانة، تيموثي غيتنر، أحد أقرب حلفاء هنري بولسون من خارج الإدارة، ورئيسة مجلس المستشارين الاقتصاديين، كريستنيا رومر، التي توحي كتاباتها وأبحاثها بتأييدها لخفض الضرائب والتجارة الحرة. وما يزال من المبكر إصدار حكم قاطع بشأن أوباما. والواضح أنه يستفيد من كونه العنصر الوحيد الفاعل على الساحة الآن، ولو كان أوباما يتظاهر بالاعتدال، فسرعان ما ستتكشف حقيقته على يد الكونغرس الليبرالي. ومن الممكن أن تحول التوجهات الليبرالية التي ينتهجها أوباما، واشنطن إلى ساحة قتال ثقافية. بيد أن الأمانة تتطلب منا الاعتراف بأنه حتى هذه اللحظة، يبدي باراك أوباما ميولا وطموحات تليق بشخصية سياسية كبرى.

ثانياً: تكشف قرارات التعيين التي اتخذها أوباما أمراً مهماً بشأن سياسات بوش الراهنة، فرغم الانتقادات الشديدة التي وجهها أوباما خلال حملته الانتخابية إلى إدارة بوش، باعتبارها تفتقر إلى الكفاءة وتتبع توجهات راديكالية، فإن اختيارات أوباما لمعاونيه داخل إدارته تعد بمثابة إقرار فعلي للسياسات الدفاعية والاقتصادية التي اتخذها بوش خلال السنوات القليلة الماضية. داخل البنتاغون، استعان أوباما مجدداً بالعناصر الرئيسة التي صاغت الاستراتيجية العسكرية الحالية لبوش، وهم غيتس والجنرال ديفيد بترايوس والجنرال رايموند أوديرنو. وداخل وزارة الخزانة، استعان أوباما بأحد العناصر الرئيسة التي رسمت ملامح التوجهات الاقتصادية الراهنة لبوش. إن هذه الاستمرارية لا تجعل من أوباما خائناً لمبادئه الايديولوجية، وإنما توحي بأن بوش انتهج في حقيقة الأمر سياسات وسطية تجمع بين أفكار كلا الحزبين الرئيسين بالبلاد، لكن من دون أن يحظى بقدر كبير من تأييد أي منهما. والواضح أيضاً أن الفترة الانتقالية بين بوش وأوباما تمر بقدر أكبر من السلاسة عما توقعه البعض، ليس فقط لتمتع أوباما بميول معتدلة، وإنما أيضاً لتمتع بوش بالميول ذاتها. وعلى الصعيد الاقتصادي، بصورة خاصة، لم ينتهج بوش توجهات ليبرالية قط، وإنما حرص دوماً على إحداث توازن بين التزامه بالسوق الحرة واستعداده للتدخل حينما تتعثر الأسواق.

والآن، يعيد مرشح «التغيير» اكتشاف ما سبق أن توصل إليه الكثير من الرؤساء: إنه على صعيد الكثير من القضايا، يتوافر نطاق محدود من الخيارات الممكنة بالنسبة لمن يتحلى بالشعور بالمسؤولية. وكلما اقتربت من المكتب البيضاوي، ازدادت قناعتك بحكمة من سبقوك.

ثالثاً: يكتشف أوباما حالياً حدود قدرته على قيادة «حركة» تخلو من مضمون ايديولوجي كبير. وقد شهدت الفترة الانتقالية لوصوله إلى مقعد الرئاسة عودة ظهور عصبة من معاوني كلينتون، مثل لورانس سمرز، إيريك هولدر وراهم إيمانويل، ما دفع البعض للقول بأننا على وشك الدخول في فترة رئاسة ثالثة لكلينتون. وفي الواقع، فإن بعض هذه الأمور من المتعذر تجنبها، ذلك أن خبرة الحكم عادة ما تتجمع في البرك الراكدة الخاصة بالإدارات السابقة.

لكن عودة توجهات كلينتون للحياة أكثر وضوحاً هذه المرة، لأن توجهات أوباما هشة وغير مميزة. لم يحضر أوباما معه إلى واشنطن كوادر إصلاحية خاصة، ولا رؤية ايديولوجية جرت تنميتها داخل المنظمات الفكرية على مدار عقود. وبدلاً من ذلك، ركز على عنصري الخبرة والكفاءة في اختياراته، ما يعني في الغالب العودة إلى حقبة كلينتون. إن الخبرة عامل جوهري، خاصة في ما يتعلق بمحاولة تجنب الوقوع في أخطاء كبرى. بيد أن الغريب أنه في بعض الأحيان قد يشعر رئيس بالاغتراب داخل إدارته، حيث تتعرض أجندته للتقويض بسبب الكسل أو الرفض أو تضارب الأولويات. وسوف يتعين على أوباما في نهاية الأمر تحديد ملامح توجهاته وتعزيز تحالفات مع بعض أعضاء إدارته كي يقاتل هؤلاء الحلفاء بقوة من أجله.

وبصورة عامة، يمكن القول بأن أوباما يؤدي عملاً رائعاً، فهو يخيب أمل الايديولوجيين، وهو أمر يفوق آمال الكثيرين منا، ويُحيي الآمال من جديد في الرئيس المنتخب.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»