مخاوف وآمال على أبواب عام جديد

TT

جرت العادة أن يستقبل الناس كل عام جديد بتفاؤل ليس ثمة منطق يبرِّره، ولكنها النفس البشرية المتفائلة أبداً بتغيير نحو الأفضل، أو الأقل سوءاً، مع أن في الشعر العربي من قال، ولعلّه أبو العتاهية:

يذكّرني الهلال بنقص عمري وأفرح كلّما طلع الهلالُ

إن ذهاب عام ومجيء آخر ظاهرة أوجدتها المجتمعات تبعاً لظروف بيئية خاصة بها، ولذا نجد اختلاف التقاويم التي تسجّل مفاصل تاريخ هذه الشعوب وأحداثها الكبرى. فبجانب التقويم الغريغوري للسنوات الميلادية الذي اعتمده الغرب وصار متعارفاً عليه دولياً، هناك التقويم الهجري في العالم الإسلامي، والتقويم القبطي في مصر، والتقويم العبري في إسرائيل، والسنوات الصينية، وغيرها العشرات التي تُعتمد بالتوازي عادةً مع التقويم الميلادي، الذي يصل خلال ساعات معدودات إلى مفصل آخر بإطلالة عام 2009.. المتزامن تقريباً مع دخول العام الهجري الجديد 1430.

واقع الحال يقول إن فرحة الناس بوداع عام كئيب كـ2008، لا تغيِّب عن أذهانهم أن لا شيءَ سيتغيّر بصورة جذريّة خلال الأشهر الـ12 المقبلة، بل قد تزداد الأزمة المالية العالمية حِدة، وتتفاقم الأوضاع في نقاط العالم الساخنة كالشرق الأوسط وشبه القارة الهندية. ولن يكون بمقدور الإدارة الأميركية الجديدة التي ستتسلّم السلطة رسمياً يوم 20 من يناير (كانون الثاني) المقبل إحداث نقلة نوعية سريعة، بل حسبها «إدارة» الأزمات بمقاربات وتدخّلات محسوبة، واقعية وأخلاقية، ربما تؤتي ثمارها خلال النصف الثاني من عهد باراك أوباما.

فإدارة أوباما، التي حصلت على تفويض شعبي طيّب في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الفائت تحت شعار «التغيير»، ترى أن التركة التي ورثتها عن الإدارة الجمهورية السابقة تركة ثقيلة لا تحسد عليها. وهي تدرك أن التصويت لصالحها كان في المقام الاول تصويتاً ضد كل ما مثّلته تلك الإدارة السيئة التي خدعت المواطن الأميركي.. ثم خذلته.

فقد أسّس عهد جورج بوش «الابن»، مدعوماً بتحالف اليمين المتفلّت اقتصادياً والمتطرف عنصرياً والمتحجر دينياً على امتداد ثماني سنوات، وضعية مؤذية للغاية على الصعيدين الداخلي والدولي، يمكن تلخيصها بما يلي:

- زرع الشعور بالرّهبة والخوف في المجتمع الأميركي بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، مما سهّل على اليمين مصادرة الكثير من الحريات التي كان المواطن الأميركي يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من ثقافته.

- الانطلاق من مصادرة حريّة الاختلاف في الرأي، داخلياً، لفرضها في ما بعد على العالم في معركة دامية خطيرة الأبعاد، احتكر الحق في تعريفها ووصفها واختيار سلاح التصدّي لها، من دون احترام حتى آراء الحلفاء الموثوقين.

- خلق مناخ تناقضي تصادمي على المستوى العالمي، عزّز على الجانب المقابل من السِّياج مواقع قوىً متطرِّفة ظلامية، وأعطاها صدقيّة شعبيّة لا تستحقها وما كانت لتكسبها لولا كراهية شعوبها لغطرسة اليمين الأميركي المتشدد، وتحديداً «المحافظين الجدد». والمفارقة أن محاربة هذه القوى، بالذات، كانت الذريعة المزعومة التي سوّقت لتسويغ هذا الوجه من «صدام الحضارات».

- وقف البحث العلمي في حقول معرفيّة وطبيّة وبيئيّة لمدة ثماني سنوات بسبب «دوغماتيّة» إنجيليّة أصوليّة مريضة، مما فوّت على الإنسان فرصاً لا تعوّض لتحسين ظروف معيشته، واجّل طوال فترةٍ حرجة تطوير معالجات لأمراضه وعلل بيئته.

- تشجيع الفردية الجشعة على حساب التكافل الاجتماعي والإنساني العريض، مما أسهم – كما يُجمِع خبراء الاقتصاد – في وصول أميركا والعالم إلى الأزمة المالية الحالية، التي اضطرت معها أعتى الرأسماليات إلى العودة ـ ولو مؤقتاً ـ إلى التدخل الحكومي المباشر، من إقراض الشركات الخاصة والمصارف.. إلى وضع اليد عليها.

إصلاح ما أفسدته هذه السنوات الثماني العجاف يحتاج إلى أكثر من سنة واحدة، وربما أكثر من فترة رئاسية واحدة لإدارة أميركية عاقلة تفهم طبيعة التحديّات التي يواجهها عالمنا، وتستنبط وسائل ناجعة للتعامل معها.

من منطلق رومانسي، يؤمل أولاً بمقاربة «أخلاقية» في السياسة الخارجية الأميركية، والغربية عموماً، حيال النزاعات العالمية الخطيرة، ومنها أزمات منطقتنا المتشابكة تشابكاً كاملاً مع المفهوم الرائج لـ«الإرهاب».

فإذا كان الشعار المعتمد هو التصدي للتطرّف الديني بكل أشكاله، حبّذا الالتزام به روحاً ونصاً بدلاً من التذاكي بابتكار اجتهادات تفضي إلى صفقات مريبة في غرف خلفية مظلمة.

وإذا كانت السياسات «الأخلاقية» تقوم على منع الديكتاتوريات من قطف ثمار جرائمها الدموية وتجاوزاتها القمعية، يؤمل أيضاً الإحجام عن استرضائها على حساب شعوبها المقهورة لاعتبارات ومطامع مصلحية تكتيكية لا تقيم وزناً لمبادئ حقوق الإنسان.

وإذا كان هناك حقاً التزام بمبادئ حقوق الإنسان، وبضمنها حق تقرير المصير، يصبح لزاماً على واشنطن وحلفائها ممارسة الحزم مع الحلفاء المزعومين الذين تنكّروا طويلاً لكل هذه المبادئ.. تارة بحجة الأمن وطوراً بذريعة الديموغرافية.

ومن دون أن نذهب بعيداً، لنسم الأشياء بأسمائها في ما يتعلق بالمنطقة العربية.

نسمع أن ثمة صراع محاور ثنائياً يهيمن على المنطقة، أحد طرفيه إيران ومعها الحكم السوري و«حزب الله» اللبناني وحركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» الفلسطينيتان ومَن يناصره من قوى توصف بـ«التحريرية». أما الطرف الآخر فيمثل قوى ما يوصَف بـ«الاعتدال العربي» التي يدعمها الغرب والمجتمع الدولي. هذه هي المعادلة المبسّطة والمشوّهة التي نسمع عنها، والتي يُراد منها أن تختصر التناقضات الهائلة التي تعيشها مجتمعاتنا مع أنفسها، ومن ثم، في علاقاتها مع العالم.

هذه التناقضات تدفع بالمواطن العربي اليائس إلى تصديق أي زعم، والسير خلف أي شعار يتصوّر أنه سيعيد إليه كرامته. ومع أن المحور «التحريري» عاجزٌ ليس عن التحرير فحسب.. بل أيضاً عن بناء مجتمعات متجانسة ومتصالحة مع مكوِّناتها، ما زال الخطاب الثوري الديماغوجي يلقى أصداءً بسبب سلبية الغرب إزاء خيار «الاعتدال». وإذا كنّا أكثر صراحة، لنقُل «تآمر» هذا الغرب ـ الذي لا يكفّ عن مطالبتنا بالاعتدال ـ على صدقيّة المعتدلين العقلاء.. لا الانهزاميين.

ولا أدلّ على ما أقوله من الإصرار على ترحيل حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي إلى ما لا نهاية، كما يدعو بعض الغرب اليوم، لتمرير «صفقة» السلام السورية الإسرائيلية.

إن العلاقة جدلية بين تناقضنا مع أنفسنا وتناقضنا مع العالم الخارجي. وتعزيز صدقيّة الراديكالية الدينية في فلسطين ولبنان وسورية وغيرها.. عبر قمعها، لا يمكن إلا أن يطيل عمر أزمتنا ويمزّق مجتمعاتنا ويدمّر ما تبقى فيها من مؤسسات ويدفع أجيالاً جديدة نحو التطرف العبثي اليائس.