مفقود في الزحام

TT

طوال اليوم تكون خاضعا لتأثير قوى كبيرة. وتسيطر الجينات على ذكائك ورغبتك في خوض المخاطر. وتشكل الأنشطة الاجتماعية الخيارات التي تتبناها. ويدفعك إدراكك الفوري إلى اتخاذ ردود أفعال عصبية في دماغك بدون حتى أن تعيها.

وعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، توصل العلماء إلى اكتشافات مذهلة حول كيفية تحكم هذه الأنماط العميقة في الحياة اليومية. ولم يحاول أحد جذب انتباه العامة لتلك الاكتشافات أكثر من مالكولم غلادويل.

ويبدو كتاب غلادويل الجديد المهم، «العوامل الخارجية»، لأول وهلة وصفا لأشخاص موهوبين على نحو استثنائي. ولكن في الحقيقة، إنه كتاب آخر عن الأنماط العميقة. ويقول غلادويل إن الأشخاص الناجحين الاستثنائيين ليسوا الرواد الذين حققوا نجاحهم بأنفسهم. ولكنهم منتفعون محظوظون من الظروف الاجتماعية.

وكما صرح غلادويل لجايسون زينغيرل من مجلة «نيويورك»، يقول الكتاب:«الأشخاص العظماء ليسوا عظماء جدا. ولا تعد عظمتهم حقيقة بارزة، ولكنها نوع من مزيج حسن الحظ من الفرص التي حصلوا عليها».

ويقول غلادويل، بما لا جدال فيه، إن بعض الأشخاص لديهم فرص أكثر من أشخاص آخرين. وكان بيل غيتس محظوظا لالتحاقه بمدرسة خاصة عظيمة كان بها أجهزة كومبيوتر خاصة بها في فجر ثورة المعلومات. وتثير فكرة غلادويل الاهتمام، حيث يقول إن القوى الاجتماعية تفسر بدرجة كبيرة سبب اجتهاد بعض الأشخاص أكثر من غيرهم عندما يجدون تلك الفرص.

وعلى سبيل المثال، يجتهد الصينيون لأنهم نشأوا في ثقافة تعتمد على زراعة الأرز. ويتطلب الاعتناء بحقل أرز عملا يصل إلى 3000 ساعة سنويا، ونتج عن ذلك تراث ثقافي يقدر العمل الكادح. وينشأ كثير من أبناء الطبقة العليا المتوسطة الأميركية في جو من «التربية المنسقة»، التي تغرس فيهم إخلاصا شديدا للسعي باجتهاد من أجل تحقيق الجدارة.

وفي رأي غلادويل، تلعب قدرات الفرد دورا أصغر في تبرير نجاحه، بينما تلعب الظروف الاجتماعية دورا أكبر. وكما قال لزينغيلر: «أدير ظهري بكل وضوح للنماذج الجوفاء التي تقول إنك يمكنك أن تصبح أي شيء ترغب فيه. حسنا، في الحقيقة، لا يمكنك أن تكون ما تريد، فالعالم يقرر لك ما يمكنك أن تكون وما لا يمكنك أن تكون».

وكالعادة، يلفت غلادويل الانتباه إلى فكرة أكبر، وهي التقدير المتزايد لقوة الأنماط الثقافية، والتأثيرات الاجتماعية، والموروثات الثقافية. وتلقى النقاد كتابه وكأنه دعوة إلى التحرك في عصر أوباما. ومن الممكن أن يؤدي بصناع القرار إلى نبذ السياسات التي تعتمد على الافتراض بأن الشعب مكون من أفراد راشدين لديهم قدرة على زيادة المنافع. وقد يجعلهم يركزون أكثر على السياسات التي تعزز من العلاقات والروابط الاجتماعية وثقافات الإنجاز. لكني أشعر بأن غلادويل وآخرين يشاركونه تأكيده اندفعوا عاطفيا وراء الاكتشافات الجديدة. ولا يرون النقطة التي تقف عندها سيطرة القوى الاجتماعية ويبدأ عندها تأثير الفرد الذي يبدأ من ذاته.

ويبدأ معظم الناجحين بتبني اعتقادين: أن المستقبل من الممكن أن يكون أفضل من الحاضر، وأنا لدي القدرة على تحقيق ذلك. وغالبا ما يكونون متمتعين بحظ وافر، ولكنهم يعتمدون في الأوقات الحاسمة على الإرادة الفردية.

ويتمتع معظم الناجحين أيضا بالقدرة الاستثنائية لتركيز انتباههم بدرجة من الوعي. ونعرف من تجارب وقعت مع أفراد مختلفين مثل مرضى الوسواس القهري ورهبان بوذيين أن الأشخاص الذين يمكنهم تركيز انتباههم عمدا لديهم القدرة على تجديد طاقات عقولهم.

ويعد التحكم في الانتباه أقصى قدرة فردية. والأشخاص الذين يمكنهم فعل ذلك ليسوا سجناء المحفزات التي تحيط بهم. ويمكنهم الاختيار من بين الأنماط في العالم وإطالة آفاقهم الزمنية. وتؤدي هذه القوة الفردية إلى أنواع أخرى من القوة، مثل التحكم في الذات، والقدرة على صياغة استراتيجيات من أجل مقاومة الاندفاعات. ولو كان علينا الاختيار، لاخترنا جميعا أن يكون أبناؤنا فقراء ولديهم قدرة على التحكم في الذات، بدلا من أن يكونوا أغنياء بدونها. وتؤدي تلك القدرة أيضا إلى المرونة، وهي القدرة على الإصرار على فكرة ما حتى عندما تقول كل القوى المؤثرة في العالم إنها غير ممكنة. وتنتشر قصة بين أصحاب المشاريع حيث يقول لهم الناس إنهم أغبياء ولا يستطيعون فعل شيء، ولكنهم يثبتون للحمقى أنهم كانوا مخطئين.

وتؤدي القدرة على تركيز الانتباه إلى الإبداع. ويتمتع الأفراد الذين يستطيعون تركيز انتباههم بالقدرة على الاحتفاظ بموضوع ما أو مشكلة ما في أذهانهم لفترة طويلة من الوقت تكفي لرؤيتها بشكل جديد.

وتفيد نظرية غلادويل عن الحتمية الاجتماعية في تصحيح نظرة الطبيعة الاقتصادية للنفس البشرية. كما أنها تنادي بالمساواة أيضا، حيث الأقل نجاحا ليسوا أقل قيمة، ولكنهم أقل حظا. ولكنها تهمل تمركز الشخصية الفردية والإبداع الفردي. ولا توضح تماما الظواهر الخارجية التي تبرر العظمة البشرية الحقيقية. وكما فهم الفلاسفة الكلاسيكيون، تقف نماذج الشخصيات العظام مصدر إلهام لتحقيق إنجازات أكثر ثقة من أية وسيلة أخرى للتعليم. وإذا استطاع غلادويل أن يستخف بشكسبير ويجعل منه مجرد نتاج للقوى الاجتماعية، فسأشتري 25 نسخة إضافية من كتابه «العوامل الخارجية» وأوزعها في ميدان التايمز.

* خدمة «نيويورك تايمز»