الإسرائيليون.. وحريق المنطقة

TT

لم أر في حياتي مشهدا أسخف من ذلك المؤتمر الصحافي، الذي عقده رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود اولمرت وإلى يمينه وزيرة خارجيته تسيبي ليفني، وإلى يساره وزير دفاعه إيهود باراك. عندما قال أولمرت إن صواريخ حماس قتلت مواطنا إسرائيليا وجرحت آخر، في الوقت الذي كانت فيه الصواريخ الإسرائيلية قد حصدت ساعة عقد هذا المؤتمر، ما يقرب من مائتين من أرواح الفلسطينيين وخلفت أكثر من أربعمائة جريح. هذه (البجاحة) السياسية والفجور الدبلوماسي، يجب ألا يمرا مرور الكرام على الغرب إعلاما وساسة، فمن المعيب أن يكون مقتل إسرائيلي وجرح آخر نتيجة لصاروخ طائش قادم من غزة، مبررا ومسوغا لتلك الحملة الإسرائيلية المسعورة الموجهة إلى شعب أعزل محاصر. مطب المساواة الأخلاقية بين الحدثين يجب ألا تقع فيه الذهنية الغربية، وإلا فقد الغرب ما تبقى له من رصيد أخلاقي عند العرب والمسلمين، هذا الرصيد الذي يتآكل أصلا يوما بعد يوم.

المشهد في غزة خطير جدا، وما قامت به إسرائيل لا يمكن تسميته إلا التخبط الاستراتيجي الهادف إلى زعزعة الأمن الإقليمي برمته. فأي عاقل أو دارس لقضايا الأمن يدرك أن موضوع انتصار إسرائيل على حركة مقاومة هو أمر مشكوك فيه في أحسن الأحوال، وقد شهدنا ذلك بوضوح في حرب إسرائيل على حزب الله في صيف عام 2006. إسرائيل قد تستطيع هزيمة جيوش دول منظمة وفق قواعد حرب واضحة للجميع، لكنها، كمعظم الدول أيضا، لا تستطيع إنهاء حالة مقاومة، سواء كانت متمثلة في «حزب الله» أو في حركة «حماس».

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا شنت إسرائيل هذا الهجوم الأخير على غزة؟ قد يكون الهدف من ذلك هو إقناع الرأي العام الإسرائيلي بأن حزب «كاديما» قادر على تأديب «حماس»، وعلى الإسرائيليين أن ينتخبوه مرة أخرى وألا يمنحوا أصواتهم لحزب «الليكود» ممثلا في بنيامين نتنياهو. ولكن على الأغلب سوف تكون النتائج المترتبة على هذا الهجوم على غزة كارثية أكثر مما يتصور أولمرت، بحيث تذهب به وبجماعته وتأتي بنتياهو إلى الحكم، منهية آمال كل من «كاديما» و«العمل» في الفوز معا بالانتخابات المقبلة.

العدوان الشرس على غزة في مشارف العام الجديد، سيجعل الشعب الفلسطيني برمته يقف خلف حركة «حماس»، وحتى الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه لا يملك في مواجهة هذا الموت والدمار سوى أن يقف في معسكر «حماس» مدافعا عن شعبه وأهله. الوقوف على الحياد في مواجهة القتل غير المبرر هو انتحار سياسي للسلطة الفلسطينية في رام الله، ولن تلجأ بالتأكيد إليه. فإذا كانت حكومة أولمرت لا تدرك ذلك، ولا تقدر انعكاسات هذا الهجوم على الداخل الفلسطيني، فهذا غباء مطلق.. وإن كانت تعلم، فمعنى ذلك أن لديها النية المبيتة لإنهاء حكم محمود عباس وليس حكم «حماس» ووضع الشعب الفلسطيني كله تحت خانة «حماس»، استعدادا للمواجهة الأكبر، وبداية النهاية لرفض حل الدولتين الذي كانت الإدارة الأميركية تضغط باتجاهه مؤخرا. وبهذا تكون إسرائيل أثبتت للعرب، المعتدلين منهم والراديكاليين على حد سواء، بأنها لا تريد السلام.

التصعيد العسكري الإسرائيلي على غزة لا يحاصر غزة فقط، وإنما يحاصر أيضا كل العرب المعتدلين، بشرا ومفكرين وقادة، الذين ما زال لديهم أمل في أن يعم السلام على المنطقة وتطوى صفحة الحروب وينهى مسلسل إراقة دماء الأبرياء كضحايا لها. ضرب غزة يمثل، أول ما يمثل إقليميا، إرباكا وإحراجا سياسيا للدولة الجارة الكبرى مصر، التي حاولت دائما أن تلعب دور المعتدل والوسيط في هذا الصراع. فماذا لو هرب الفلسطينيون من غزة التي تدكها الطائرات الإسرائيلية ولجأوا إلى مصر؟ هل سيستطيع النظام في مصر تحت ضغط الشارع المصري الغاضب إيقافهم أو منعهم؟ وإن فعل وأوقفهم، ألا يكون هذا النظام قد أقدم على الانتحار السياسي؟ فهل هدف إسرائيل هو إحراج دولة مثل مصر وإرباك قيادتها؟ إذا كان الأمر كذلك، فنحن نتحدث عن نوايا سيئة تهدف إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي بمجمله، وليس عن حرب تقتصر فقط على حركة «حماس» أو «الجهاد الإسلامي»، كما أعلن قادة إسرائيل. التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير لا يحرج مصر فقط، فأي دولة عربية وأي زعيم عربي بعد هذا الهجوم يستطيع أن يبرر لشعبه أي خطوة يقوم بها نحو السلام، في الوقت الذي تحصد فيه الصواريخ الإسرائيلية أرواح الفلسطينيين بالمئات، وعلى الهواء مباشرة؟ من سيبادر ثانية ويمد يد السلام لإسرائيل، وهي تمد أطفال ونساء ورجال غزة بنيران الصواريخ والمدافع؟

إن ما تقوم به إسرائيل من إحراج لقوى الاعتدال في المنطقة، سوف يسلم قيادة المنطقة بأكملها لقوى الراديكالية وقوى التطرف. فمن أجل أن تصفي إسرائيل القضية الفلسطينية تقوم بتمييعها في قضايا تطرف أخرى.

يجب أن تدرك إسرائيل بأن التوصل إلى معادلة أمن إقليمي، ليس بضرب غزة أو بضرب «حزب الله»، وإنما بالتفكير الجاد في تصور إقليمي ممكن للأمن ينظر للمنطقة كوحدة استراتيجية متكاملة، بما فيها إيران و«حزب الله» و«حماس». وإن بداية هذا التصور، تنطلق من محاولة جادة للتعامل مع الطرح العربي القائل بـ«الأرض مقابل السلام». حتى هذه اللحظة، لم يتعاط الإسرائيليون ولا الأمريكان مع هذه المبادرة بالجدية المطلوبة.. تحايل الجميع على العرب، من بيل كلينتون حتى جورج بوش، ومن شيمعون بيريز إلى ايهود أولمرت، وركزوا على العملية لا على السلام في «عملية السلام».

لدينا فرصة ممكنة في إدارة الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، شريطة ألا يدخل فريق أوباما في الألاعيب ذاتها التي تبنتها إدارتا بيل كلينتون وجورج بوش الابن، اللتان لم تكونا جادتين في الحل، بل كانتا تركزان في العملية لا في السلام كهدف نهائي، كانتا تركزان على «إدارة الصراع» لا على «إنهاء الصراع». تلك الأفكار التي سمعتها مرارا في واشنطن من الوجوه ذاتها والمبعوثين ذاتهم الذين ينوي أوباما تعيينهم للتعامل مع قضية السلام في الشرق الأوسط. الطريق إلى الاستقرار لا تمر عبر استهداف غزة، وانما تمر عبر تصور ناضج وجاد للأمن الأقليمي يضمن أمن المنطقة بما فيها إسرائيل. الحل يكمن هنا.. أما عدوان إسرائيل على غزة في مشارف العام الجديد، فهو بكل تأكيد ينم عن نوايا غير مطمئنة، إن لم نقل بأنه يبشر بكارثة استراتيجية قادمة تجعل اللهب يلتهم المنطقة برمتها.