الاستقلال الثاني.. وضروراته

TT

قد يأخذ بعض المتحمسين خبر قبول القضاء الأميركي المرافعة في ثلاثين دعوى جنائية مرفوعة ضد وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد الذي عرف هو بوش بشرعنة التعذيب في أبوغريب وغوانتانامو وشركات أمنية استخدمتها سلطات الاحتلال في العراق والمتهمة بارتكاب جرائم الإرهاب وجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، على أنه برهان على محاسن الديمقراطية الأميركية بدلاً من اعتبارها دليلاً آخر على نموذج تصرّف في ارتكاب ما يرغب الحاكمون بارتكابه لأسباب نفطية أو سياسية أو ايديولوجية معادية للإسلام من احتلال وقتل وجرائم ضد المدنيين العزل، منتهكين بذلك كل الأعراف والقوانين الدولية وحتى الأميركية، في حين يعتبر البعض الآخر محاولة تجميل صورة الأميركي التي جعلها بوش ومجموعته قبيحة جداً بقبول دعاوى ضد جندي هنا، وضد ضابط هناك، ووزير دفاع سابق وقد تقبل في المستقبل دعاوى ضد رئيس سابق، ولكن أقصى ما سيحكم به القضاء الأميركي هو إصدار اعتذار ربما تماماً كما صدرت اعتذارات عن مجازر الإبادة التي ارتكبوها ضد الأبورجينز والهنود الحمر بعد احتلال بلدانهم وتدمير مجتمعاتهم، وطرق عيشهم، وحضارتهم. وقد أصبح جمهور المدافعين عمّا يرتكبه المتطرفون الأميركيون في بلداننا العربية من مجازر وحصار واستيطان وإرهاب يشكل شريحة ملحوظة متوزعة على مستويات عدة وفي مجالات مختلفة بما في ذلك السلطات الحاكمة وأجهزة إعلامها، وتحاول هذه الشريحة اختلاف منطق الاستذلال للعدو لإقناع الناس بأن منطلقاته ترتكز على (الحرص على الأوطان).

ولكن في هذه المرحلة التي تتسم بالتشويش الإعلامي كإحدى أدوات ارتكاب الفعل الإجرامي ضد العرب لابدّ من وضوح في الرؤيا والمعايير التي تحّدد بدون أدنى لبس وطنية الفعل أو ارتهانه للعدو الإرهابي المعتدي. ولمواجهة هذا التشويش المقصود لابدّ من الفطنة والحكمة والمتابعة الدقيقة لأن سياسة ذرّ الرماد في العيون وصل بها العدو مرحلة من الدهاء قد لا يسهل على البعض أحياناً اكتشاف دافعها الحقيقي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، استعرض بعض ما فعلته إسرائيل ليس منذ ستين عاماً بل منذ أسبوعين وحسب. فبالإضافة إلى حصارها الإجرامي، بكل المقاييس والأعراف الدولية والإنسانية، المفروض على المدنيين في غزة فقد منعت المقرر الأممي لحقوق الإنسان ريتشارد فولك من دخول إسرائيل حيث أعيد بعد وصوله إلى مطار بن غوريون قرب تل أبيب ذلك لأن فولك كان قد دعا قبل ذلك إلى «تحرك دولي عاجل لإرغام إسرائيل على تطبيق المعيار المتفق عليه حول حماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال»، مقترحاً «أن تحقق المحكمة الجنائية الدولية في جريمة حصار غزة وتداعياتها الكارثية على كلّ المستويات»، في اليوم ذاته أطلقت إسرائيل سراح 220 أسيراً فلسطينياً ممن تقارب أحكامهم على الانتهاء من أصل اثني عشر ألف أسير فلسطيني كي تشغل الإعلام بأن اسرائيل تطلق سراح الأسرى بدلاً من أن يفضح الإعلام مثل هذه الألاعيب المكشوفة والمملة التي اعتادت الطغمة الحاكمة في إسرائيل ممارستها دوماً، هذه الإدانة هي إدانة أخرى يوجهها مسؤول أممي لإسرائيل تضاف إلى إدانات سابقة لا تضاهيها في العدد سوى الإدانات التي وجهت لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وبدلاً من أن ينشغل الإعلام العربي بنشر إدانات المسؤوليين الأمميين لإجراءات حكام إسرائيل العنصرية، ويبرز خطورة منع مسؤول أممي من الإطلاع على وضع المدنيين الفلسطينيين العزل في غزة، انشغل هذا الإعلام بسذاجة كعملية إطلاق بعض الأسرى الذين تسارع إسرائيل لتعتقل ما يفوقهم عدداً خلال ساعات.

كما تلقى الرئيس الحالي للجمعية العامة للأمم المتحدة رئيس وفد نيكاراغوا ميغيل دي ايسكوتو تهديدات بالقتل من متطرفي اللوبي الإسرائيلي في أميركا بسبب انتقاداته المستمرة للجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلية والأميركية. وكانت إسرائيل قد قتلت خلال فترة التهدئة ثمانية وثلاثين شاباً فلسطينياً في حين روج بعض العرب أن حماس هي التي أنهت التهدئة. كلّ هذه الأحداث الجسام لم تشكل عناوين رئيسية على الصفحات الأولى في الصحف العربية أو مادة إخبارية أساسية في نشرات الأخبار العربية.

والمثال الثاني هو اقتباس عناوين من اسرائيل بأنها تجري تحضيرات عسكرية ودبلوماسية لارتكاب جريمة عدوان جديدة في قطاع غزة، وبأن العدوان على غزة خلال ساعات أو أيام وكأن الحصار والعدوان على قطاع غزة من البحر والبرّ والجو لم يبدأ بعد، وهي ليست عمليات ضد حماس إلا بمقدار ما كان الاحتلال الأميركي عملية ضد نظام صدام! فكما كان إسقاط نظام صدام مجرد عذر لاستباحة العراق وتدميره فإن أحكام إسرائيل بالسجن على مسؤولي حماس واستهدافهم وتصفية من تستطيع منهم ليس إلا مبرراً لحربها العنصرية على الشعب الفلسطيني برمته في غزة والضفة الغربية وفي فلسطين 1948 لا فرق عندها بين فلسطيني وآخر ولا بين عربيّ وآخر.

والمثال الثالث، وهناك الكثير الذي اسوقه هنا لمروجي الديمقراطية الأميركية المشبعة بالعنف وازدواجية المعايير، هي الأخبار التي تناولتها جميع وكالات الأنباء عن هدر مائة مليار دولار من أموال إعادة إعمار العراق في الفساد الذي ينتشر في جسد الديمقراطية الأميركية كالسرطان والأمثلة كثيرة وآخرها الفضيحة الكبرى في نازداك وبطلها مادوف الذي تلاعب بخمسين مليار دولار في أفظع قضية فساد في العصر الحديث، تُرى أن هذا النظام الأميركي الذي يريد أن ينشر ديمقراطيته بالحرب إلى النظام العربي مكّون من بشر متشابهين هنا وهناك ولا يمكن لأي أحد أن يدعي نزاهة وقدسية عرق ما أو نظام وإنما الأمور نسبية وحسب المعطيات المحددة في المواضيع المحددة. تصريحات هانز بليكس المفتش الأممي السابق والتي أكد فيها أنه فهم من ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي ما يشبه التهديد بالتشكيك في مصداقيته ومصداقية البرادعي، حيث قال: «فهمت من تشيني أنه إذا لم نأت بالأجوبة المطلوبة فسيقدمون هم هذه الأجوبة وسيتخذون الإجراءات تباعاً»، تؤكد أن الفساد السياسي موجود بغض النظر عن الديمقراطية. وخلص بليكس إلى الإشارة إلى أن النفط كان أهم اسباب الحرب.

إلى متى إذاً يبقى الواهمون من تلك الشريحة التي تدافع بسذاجة عن نيات وأهداف الديمقراطية الأميركية في غزو بلدان آمنة واستباحة ثرواتها وارتكاب المجازر ضد شعوبها وتهديد أمنها وتدمير مستقبلها. لقد كانت غزوات الأطماع الاستعمارية في الماضي تتجه من بلد غربي إلى آخر فيقف أبناء الشعب المعتدى عليهم صفاً واحداً للمقاومة والدفاع عن بلدهم ضد الغزاة الأجانب. وبعد الغزو تبدأ القوات المستعمرة بشراء العملاء وباستخدام المتواطئين والانتهازيين من ضعاف النفوس لتثبيت حكمها وتنفيذ مخططاتها في إحكام أدوات نهبها. أما اليوم، ومع تقدم وسائل الاتصالات وسهولة الحركة بين البلدان، فقد بدأت القوات الاستعمارية الغازية باتباع أسلوب شراء الذمم والعملاء والمتواطئين من القوى السياسية المعارضة في مرحلة الاستعداد للغزو بحيث يشكل هؤلاء أبواقاً جاهزة للترويج لهذا الغزو و«لأهميته للمصالح الوطنية». ومن هنا يبدأ التشويش في أذهان الناس لأن المروجين للأعداء هم من أبناء جلدتهم ودينهم! ويصبح الصراع النفسي والسياسي داخلياً يريح قوى الأعداء من معارك أساسية، يريحهم منها المتواطئون وتدخل ولديها سند محلي وأعوان وتكرس من أجل ذلك آلة إعلامية تسلط الضوء على كلّ ما تجود به قريحة المتواطئين وتعتم على ما يريده المقاومون المخلصون لشعبهم وكرامته ومستقبله.

هكذا فعلت قوى الاستعمار في أميركا اللاتينية على مدى خمسمائة عام منصّبةً عملاءها حكاماً لتسلب بسلاسة ثروات تلك القارة الهامة إلى أن نضجت أميركا اللاتينية اليوم وعقدت مؤتمرها منذ اسبوعين مع دول الكاريبي مانعة الولايات المتحدة وأوروبا من الحضور ومحتضنة كوبا وداعية الولايات المتحدة لرفع الحصار الجائر عنها. لقد تمت تسمية هذا الاجتماع بالاستقلال الثاني وهو لا يقل أهمية عن الاستقلال الأول. فإذا كان الاستقلال الأول يعني الاستقلال الرسمي بجلاء القوات الأجنبية المستعمرة عن البلد المعين في حين تستمر الهياكل الاستعمارية بالحكم فإن الاستقلال الثاني يعني ظهور حكومات وطنية مستقلة فكرياً وسياسياً ومصلحياً عن المستعمرين تضع مصلحة البلد فوق كل اعتبار وتشير بالبنان للتواطؤ، وتحارب العمالة للمستعمر وتروع المعتدي بدون خوف وتفرز المرجعيات الوطنية بوضوح بدون تشويش أو غموض أو ارتباك.

عندما كنت أتابع مؤتمر الاستقلال الثاني لدول أميركا الجنوبية والكاريبي مرت أمامي أحاديث أطفال غزة الذين تكلموا بلغة ومحتوى تفوق لغة ومضمون تصريحات سياسيين عرب محترفين. قال أطفال غزة إنهم يقررون البقاء في غزة رغم الحصار بينما ينعم أطفال العالم بالعيد وهدايا العيد ومأكولات وحلويات العيد الشهية. أتساءل بعد خمسين عاماً من استقلال الدول العربية متى سيحقق العرب جميعاً استقلالهم الثاني الذي يطرد الأعداء نهائياً من الأرض العربية ويخلّص الإرادة السياسية العربية من عار الارتهان لسياسات الأعداء، وبشكل يستطيع حكامنا الجلوس معاً، ويستطيع سياسيونا إطلاق صرخة حق مع عرب غزة وفلسطين والقدس، وبشكل يعيد للعرب مكانتهم اللائقة في تشكيلة عالم ما بعد بوش، عالم متعدد الأقطاب يستطيع العرب أن يشكل أحد ألوان طيفه إذا ما حصلوا على استقلالهم الثاني وأتقنوا استخدام أدواته لأنه أصبح ضرورة ملحة لهم جميعاً.

بعد يومين نودع عام 2008 والعالم برمّته يحمل عار ترك عرب غزة وحدهم بين أنياب الوحش الإسرائيلي، وستظل لطخة سوداء في تاريخ الاستقلال الأول، حرقة وحسرة أطفال فلسطين وعذاب أسيرات وأسرى فلسطين وقتلى ومهجرين ونازحي العراق الذين تركوا لمصيرهم وحدهم بين مخالب الوحش الديمقراطي الأميركي. علينا أن نبدأ من مكان ما وأفضل مكان أراه هو الاعتراف بضرورة الاستقلال الثاني والبحث الجدي في عناصره السياسية والإعلامية والأخلاقية.

www.bouthainashaaban.com