إحنا الشعب

TT

أحب مصر حبا يتراجع أمامه كل حب آخر. وأشعر كل بضعة أشهر بأنني لكي أولد من جديد وأتعلم مراحل الحبو والمشي والكلام وأصل بسرعة إلى شباب أحارب به كل القوى المعادية للحياة والرقي والإحسان يجب أن احزم متاعي وأزور مصر.

في تلك الأوقات تسخر مني أسرتي وترميني بالإسراف في الخيال لأنني أبحث عن مصر لم تعد هي مصر وأتمسك برموز لا تشكل في الحياة اليومية كما يعيشها المصريون أهمية أو معنى. باختصار يعتبرون أن النوستالجيا تحركني نحو مشاهد فلكلورية لا تغني ولا تسمن من جوع. ولكني أرفض ذلك المنطق وأتمسك بذكرياتي الحية عن مصر الطفولة والصبا.

مصر الطفولة والصبا هي الناس لا الأشياء. ناس يتحركون ويفكرون ويتفاعلون داخل مشهد حياتي هادئ وآمن ومنظم تمثل فيه ثمار التوت أو عربات التين الشوكي أو أغاني عبد الحليم حافظ خلفية عزيزة ولكنها مجرد خلفية. فهل اختفى الإنسان المصري كما عرفته إلى غير رجعة وحل محله كائن لا أعرفه ولا يعرفني، تحولت ابتسامته الطيبة إلى عبوس دائم ورغبة في الشجار على أهون سبب؟ إنسان أرهقته زحمة المرور حتى أصبح سجينا داخل بيته والشارع الذي يسكنه ومكان عمله؟ إنسان لا تحركه سوى رغبة في الاستمرار بأي ثمن بحيث يصبح كل شيء مستباحا، حتى المبدأ والذمة والرغبة في إتقان ما يعمل؟. القاهرة الساحرة التحمت مع المجمعات السكنية الجديدة التي يتفنن أصحاب الثروات في بنائها في الصحراء على أطراف المدينة العتيقة النبيلة التي توالت عليها العصور والحضارات واختزنت في قلبها الطيب علما وفنا وأدبا لا يوجد في مدينة أخرى. بنيت الفيلات على طرز أوروبية متنوعة، تقلد ولا تبتكر، يكسوها التراب في أقل من عام. والنتيجة هي ازدحام خانق على المخارج والمداخل وأعباء قاسية على خدمات الصرف والكهرباء والحركة وازدياد مطرد في عدد السكان بحيث أصبحت المدينة التي بنيت لمليوني شخص تحشد قرابة خمسة وعشرين مليونا آخذين في الزيادة كل عام. حركة التشييد لا تتوقف. والشكوى من أسعار الحديد وهو أحد العناصر الأساسية في صناعة البناء لا تنتهي، بحيث أشار أحدهم في برنامج تلفزيوني إلى أن أسعار الحديد تفوقت على أسعار الذهب، ولا يستبعد أن تتغير شبكة العروس من سوار ذهبي أو خاتم ماسي إلى حزمة أسياخ من الحديد. السلطات تتعامل مع شكاوى الناس من الزحام بيد من حديد: غرامات فورية قدرها ألف جنيه للمخالف في تقدير الضابط وأمين الشرطة. والإجراء هو ادفع أو سلم رخصتك، علما بأن الشوارع في وسط المدينة تغيرت مساراتها، بحيث أصبحت في اتجاه واحد من دون إنذار. وقبل أن تدرك هذا الواقع تكتشف أن الوصول إلى مقصدك يتطلب رحلة عن طريق رأس الرجاء الصالح. وإن نسيت أو أخطأت تساق إلى النيابة وربما تبيت في الحجز مع الجناة والقتلة والنشالين. وهذا كله يعتمد فقط على تقدير أمين الشرطة والضابط المعني. ومع ذلك يظل الشعار المتداول هو: الشرطة في خدمة الشعب.

سمعت بكل هذا وتملكني حزن وقلق وتذكرت أغنية شاعت في طفولتي البعيدة تقول: إحنا الشعب . إحنا الشعب. اخترناك من قلب الشعب. يا فاتح باب الحرية....الخ .

لست ممن يتقبلون اليأس. ولذلك خرجت من القاهرة إلى مدينة أصغر. وهذا موضوع حديث آخر.