المحقق الكبير في روسيا

TT

في الوقت الذي يزور فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما روسيا، يجب أن يحمل معه نسخة من رواية «الإخوة كارامازوف»، حيث ما زالت روسيا الحديثة في عصر فلاديمير بوتين تصارع المعضلات السياسية ذاتها التي وصفها فيودور دوستويفسكي منذ 160 عاما.

كتب دوستويفسكي في الفصل الشهير في الرواية والذي يحمل عنوان «المحقق الكبير» أن البشر قد يقايضون في سعادة حريتهم مقابل الغذاء والأمن. وبدلا من هذه الحرية الفوضوية، يقدم المحقق للناس «معجزة وغموضا وسلطة.. ويبتهج البشر بأنهم أصبحوا مرة أخرى منقادين مثل الأغنام.. وأنه في النهاية هذه المنحة المزعجة، التي أصابتهم بكثير من المعاناة، قد انتزعت من قلوبهم».

ويسري شعور ملموس هنا بأن بوتين جلب «معجزة وغموضا وسلطة» لروسيا التي كانت مضطربة بشدة بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي في التسعينات. وبالتأكيد الدولة أقل حرية عما كانت عليه تحت حكم بوريس يلتسن، ولكن بوتين ذو شعبية كبيرة، ولا يريد أحد أن يرجع إلى الفترة الانتقالية الجنونية الطليقة.

وروسيا التي سيقابلها أوباما تمتلئ فخرا وشكوكا. فلا يعرف قادة البلاد بصورة مؤكدة ما الذي يريدونه من الولايات المتحدة، فيما عدا الاحترام والتعامل بجدية. ويتحدث محللون أميركيون عن شراكة استراتيجية جديدة، ولكن يرتاب المسؤولون الروس في الخطط الأميركية الكبيرة. وهم يعتقدون أن الولايات المتحدة استفادت منهم أثناء سنوات ضعفهم، وأنهم ما زالوا يداوون جراحهم. وقد انهارت إمبراطوريتهم إلى حد ما بسبب حرب أسيء الحكم عليها في أفغانستان، ويعتقدون أن أميركا يجب أن تفعل ذلك أيضا.

تلك اللقطات الذهنية مقتطفة من مؤتمر انعقد هنا أخيرا تحت عنوان «فيم تفكر روسيا؟» وكان تحت رعاية مشتركة من المعهد الروسي، وهو مركز أبحاث مقره موسكو، ومجموعة بلغارية تسمى مركز الاستراتيجيات الليبرالية، والعديد من المنظمات الأخرى. (وأنا أمين صندوق جيرمان مارشال أحد الرعاة). ووصف المتحدثون الروسَ مرارا وتكرارا بأنهم دولة سعيدة بما أطلق عليه أحدهم «الاستبداد اللين» في عصر بوتين، حيث تعد معاداة الولايات المتحدة جزءا من حجر الأساس السياسي.

وقليلا ما ذُكر الرئيس ديمتري ميدفيديف في اليومين الأولين من المؤتمر، بينما كان «الإجماع» على رئيس الوزراء بوتين موضوع جلسة كاملة. وسيجتمع أوباما مع كلا الزعيمين الروسيين، ويأمل بعض المسؤولين الأميركيين في أن يقيم صلة خاصة بميدفيديف، الذي تدرب مثل أوباما في مهنة المحاماة. ولكن من الواضح أن بوتين هو الأكثر أهمية.

قال عضو في الدوما الروسي: «إن بوتين هو القائد. لا يوجد خلاف في ذلك. لقد جاء بوتين إلى السلطة وتحسنت الحياة». ووصف بديهة بوتين السياسية بالطريقة التي كان الروس في القرن التاسع عشر يتحدثون بها عن القيصر: «يعرف بوتين ما الذي يريده المجتمع أكثر من المجتمع ذاته».

وبوتين رجل صارم، أعاد بلاده الجريحة بعد سقوط الشيوعية. وأوضح أليكس شيناكوف، المستشار السابق لبوتين ومدير مركز السياسات الحالية «لقد خرجت روسيا من فوضى عام 1991 بندوب سياسية واجتماعية نفسية كبيرة».. وعندما أصبح بوتين رئيسا في عام 1999، جلب «نظام الحكم الاستبدادي بالإجماع»، على حد قول رئيس مركز بحثي روسي آخر.

وما زالت روسيا الحديثة تشعر بالقلق، على الرغم من أنها أكثر نظاما. فيشعر الروس بالقلق من خليط الجنسيات الموجودة داخل حدودها والدول المجاورة التي تؤكد ذاتها مثل جورجيا وأوكرانيا. وقال عالم أجناس بارز، كان يتحدث مثل عدد من زملائه وفقا لخلفية، إنه «مجتمع محموم، مثقل». وأشار عالم اجتماع رائد إلى أن الروس العصبيين «يهربون من حريتهم». وقال فياتشيسلاف غلاتسيتشيف، أستاذ التخطيط العمراني الذي يرأس العديد من المعاهد، إنه بعد فقدان إمبراطوريتها، تبدو روسيا «مثل الجسد المبتور». وأضاف أنها تعاني من «الخوف من الأماكن المغلقة». وقال أحد أعضاء المؤتمر «نريد المساواة. نريد الاهتمام بمصالحنا، واعتبارها مهمة». ولكن عندما طلب الأميركيون الحاضرون في الجلسة ذكر أشياء محددة، أشار روسي آخر وهو سياسي بارز «المشكلة الحقيقية هي أننا لا نعرف ماذا نريد».

وجاء ملخص صيغة بوتين في بحث قدمه مستشار سابق في الكرملين اسمه موديست كوليروف «بدون روسيا (أي الحكومة الآمنة والمتحدة)، لا يمكن أن تكون هناك حرية على الإطلاق».

وها أنا أفكر مجددا في تناقض المحقق الكبير. لذا سرني تأكيد مستشار آخر لبوتين، وهو ناشر ساعد على تنظيم المؤتمر، للحضور أن تلك المشاكل ترجع إلى ما يزيد على القرن «هذا حوار روسي يمكنكم أن تروه منذ عصر دوستويفسكي».

*خدمة «واشنطن بوست»

(خاص بـ«الشرق الأوسط»)