الترانسفير الجديد.. مستقبل «عرب 48» في «دولة اليهود»

TT

في سياق الحديث عن مستقبل الأقلية الفلسطينية في إسرائيل في ظل الهجمة اليمينية المتطرفة وتضييق «الهامش الديمقراطي» المرافق لطروحات حكومة نتنياهو – باراك – ليبرمان، فيما يختص بالتعامل مع العرب في «دولة اليهود»، لا يجوز تجاهل المخاطر الجمة والجدية التي تواجه الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة، النابعة من ميول صهيونية، تطمح لإلغاء العربي وشطب هويته، كمقدمة، هي تجريبية بالأساس (مجموعة القوانين العنصرية الجديدة كمثال)، لإشاعة فكرة أخطر وهي فكرة الترحيل (الترانسفير). هذا خطر قائم يتواجه معه عرب الداخل، مواجهة ساخنة، إلى حد أصبحت فيه الدعوة إلى الترانسفير مباحة وعلنية ومؤطرة حزبيًا وأيديولوجيًا. وتزداد الخطورة، بشكلها التصاعدي، حين نلتفت إلى حقيقة كون هذه المناداة بالترانسفير منتظمة ومترابطة، غير عابرة وغير متفرقة. وهي تجد انعكاسها القوي في الإجماع الصهيوني القائم حول مقولة أن العرب في إسرائيل هم «خطر استراتيجي» و«خطر ديمغرافي» وأنهم بمثابة «قنبلة موقوتة» يجب العمل على تفكيكها قبل أن تنفجر في وجه «دولة اليهود» بعد التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية على أساس الدولتين.

ويجد هذا الطرح رواجًا له، في هذه الأثناء، ضمن الصراع الجاري داخل إسرائيل على شكل «الحل النهائي» للقضية الفلسطينية. إسرائيل تجاهر، الآن، بأن مشكلتها الأساسية بعد إقامة الدولة الفلسطينية ستكون مع «العرب القاطنين في داخلها». هنا تجد المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، أو الأصح أنها تضع نفسها وتحاصرها في حدود حالة من «الصراع الوجودي» المتأسس على مقولة «الخطر» الكامن في العربي في الحاضر والذي يهدد مستقبلها الديمغرافي وبالتالي طابعها في المستقبل. وهناك محاولات جارية لتأسيس هذه المقولة وترسيخها في الذهنية الصهيونية الجماعية لأهداف مستقبلية قد تتعلق بمخططات إسرائيلية رسمية للتخلّص من «خطر العرب». وواضح أنه لا يمكن عزل فكرة الترانسفير (الترحيل) عن الموضوع. بل لها ارتباط مباشر، ذلك أن أي «خطر» بحاجة إلى «علاج»، وأية «قنبلة موقوتة» بحاجة إلى «جهود لتفكيكها ومنع انفجارها».

جوهر الأشياء هو «يهودية الدولة». وربما يكون المجتمع الصهيوني الإسرائيلي بحاجة إلى فكرة يتولد معها الشعور لديه بنوع من الإجماع والتوحّد الداخليين، من منطلق حاجته إلى الخروج من حالة الإرهاق الناتجة عن عدم القدرة، خلال ستين عاما، على التخلص من الفلسطيني، وبالتالي بطلان مقولته المشهورة حول «أرض بلا شعب». هذا المجتمع ينتابه الشعور بأزمة ثقة هي في تصاعد منذ الانتفاضة الأولى مرورًا بالثانية وانتهاءً بحرب لبنان وحرب غزة. لذلك نراه يحاصر نفسه في حدود حالة من «الصراع الوجودي» يراد لها أن تقوم بمهمة التوحيد وضمان الإجماع.

ثمة جديد يلفت النظر بين التشديد على «يهودية الدولة» وفكرة «التبادل السكاني» التي تطرحها إسرائيل الرسمية والأكاديمية كتوجه جدي مرتبط بالحل النهائي، وهي فكرة تقوم على مفهوم «الترانسفير» (الترحيل). وبالمقابل يمكننا الدخول إلى عمق وجوهر الشرط الإسرائيلي، المطروح بلغة غير قابلة للجدل، بضرورة الحصول على اعتراف من المفاوض الفلسطيني بـ«يهودية الدولة» كشرط للتقدم في العملية التفاوضية!. وهذا الشرط يوحي أيضا بموضوع الترانسفير (الترحيل) من حيث إنها فكرة قد تلجأ إسرائيل إليها مستقبلا في حال وجود علامة سؤال على استمرارية الطابع اليهودي للدولة!.

الموضوع هو إذن هذا المجال المسمى «التكتل والتوحّد لصد الخطر». هذا ما جرى بالضبط في أحداث أكتوبر (تشرين الأول) 2000. وهو قابل لإنتاج نفسه من جديد في حال تهيئة الظروف. والكل يعلم الآن دور أجهزة الاستخبارات و«الشاباك» والأجهزة الأمنية في الجر نحو مواجهة غير متكافئة مع العرب في أكتوبر 2000 وكيف جرى تهيئة الظروف لهذه المواجهة بتخطيط سلطوي مسبق والسيطرة التامة على الرأي العام اليهودي الإسرائيلي إلى حد عدم خروج أي صوت يدعو إلى وقف القتل والمذبحة. على العكس، فقد نجحت المؤسسة الإسرائيلية، في «أحداث أكتوبر»، بالحصول على شرعية للمواجهة من كافة أطياف التشكيلة الصهيونية داخل المجتمع الإسرائيلي مما أعطاها مساحة أكبر لتوجيه الضربة دون كوابح على الإطلاق وبتغطية من مجمل المجتمع الصهيوني الإسرائيلي.

وإذا أخذنا واقع انزياح الرأي العام الصهيوني الإسرائيلي، بكل أطيافه وأحزابه وتشكيلاته، من «الليكود» و«كديما» وحزب «العمل» و«ميريتس» وحزب ليبرمان والأحزاب المتدينة المتطرفة، إلى فكرة «يهودية الدولة»، فإن الجماهير العربية في إسرائيل تجد نفسها أمام حالة غاية في الخطورة قال فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، أرئيل شارون، قبل سنوات من على منصة الكنيست مخاطبا النواب العرب بما ترجمته الحرفية التالية: «لا تتورطوا أكثر حتى لا توقعوا أنفسكم وشعبكم بذات المصير الذي آل بآبائكم وأجدادكم عام 1948». القول لا يحتاج إلى تفسير. ففيه ما يكفيه من الوضوح. وهو يشرح نفسه بنفسه. هذه إشارة تراجعية واضحة إلى النكبة وما حملت معها من مأساة وترحيل وضياع. وقد قالها الرجل السياسي الأول في إسرائيل (في حينه).

وفي سياق آخر قال رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، في مؤتمر هرتسليا الأخير، ما ترجمته الحرفية التالية: «إن الخطر الحقيقي على إسرائيل ليس الفلسطينيين في الضفة والقطاع وإنما العرب هنا داخل إسرائيل»!. في حين أن زعيمة المعارضة، رئيسة «كديما»، تسيبي ليفني، قالت ما ترجمته الحرفية: «إن المواطنين العرب يستطيعون ممارسة حقوقهم القومية في الدولة الفلسطينية فقط». بينما في اجتماع ضم رئيس «الشاباك»، يوفال ديسكين، وكبار رجالات الجهاز، مع رئيس الحكومة الأسبق، إيهود أولمرت، أكد قادة «الشاباك» أن «ما يحدث بين الأقلية العربية يشكل الخطر الاستراتيجي الأكبر للمدى البعيد على الطابع اليهودي للدولة ولمجرد وجود دولة إسرائيل كدولة اليهود» (موقع «معاريف» الإلكتروني – 13 مارس (آذار) 2007).

هذه التصريحات تدل على نوايا وعلى استراتيجية عمل جاهزة في الجارور قد يتم اللجوء إليها في المستقبل. وهي تدشين لمرحلة جديدة، في الستين الثانية لقيام إسرائيل، تريد إسرائيل فيها إعادة صياغة تعريف ذاتها بمعزل عن الوجود العربي ضمن مفهوم «الدولة اليهودية». فهذا المفهوم ليس «تعبيرا عن حق تقرير المصير لليهود» فحسب، وإنما هي مقولة واضحة بأن للعرب بعض الحقوق المشروطة بالولاء في الأرض، ولكن لا «حقوق لهم على الأرض»، وهي جملة قالها دافيد بن غوريون وكررها أيضا شارون.

وفي اجتماع جرى قبل أشهر ضم مسؤولا كبيرا في السفارة المصرية وقادة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل واللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، أبدى المسؤول المصري تخوفه من إمكانية قيام إسرائيل بتنفيذ ترانسفير بحق العرب الفلسطينيين في داخلها في وضعية حرب قادمة.

هذا ليس مجرد «انطباع». فالأصوات التي تخرج، حاليًا، مشترطة البقاء والحقوق بمسألة «ولاء» الأقلية القومية الفلسطينية في إسرائيل «لدولة اليهود» (حزب وزير الخارجية ليبرمان)، أو تلك التي ربطت بين إقامة الدولة الفلسطينية والحل القومي للعرب الفلسطينيين في إسرائيل (رئيسة حزب كديما تسيبي ليفني)، أو «الخطر العربي» (رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو)، أو فكرة «التبادل السكاني» للتخلص من التجمعات العربية عبر تبادل في الأراضي وما عليها من سكان (هناك إجماع بين كافة الأحزاب الصهيونية على هذه الفكرة) – كل هذه الأفكار ليست خارجة عن سياق التفكير بخطر العرب المستقبلي (استنتاج «الشاباك»)، وبالتالي ضرورة اتخاذ الإجراءات والاحتياطات للتخلّص من نسبة كبيرة منهم لا يراد لها أن تبقى في «دولة اليهود» بعد التوصل إلى «الحل النهائي».

ضمن هذا السياق شهدنا هجمة جديدة عبر مجموعة من القوانين والشرائع الإسرائيلية الجديدة التي تهدف إلى تغييب العربي وشطب وجوده، أو محاولة للتدجين وخلق إنسان عربي جديد على مقاس «العقلية الصهيونية»، يعلن «الولاء لدولة اليهود» ويقبل بشطب هويته، القومية والثقافية والجغرافية والتاريخية، وبالتالي التنازل عن حقه في هذه البلاد طوعًا!.

هناك هجمة لسن مشاريع قوانين عنصرية في غضون الأشهر الأخيرة: «المواطنة مقابل الولاء». «خصخصة الأراضي» بعد مصادرتها من أصحابها العرب. «تبديل التسميات العربية وتحويلها إلى الكنية العبرية». منع إحياء النكبة. منع العرب من السكن في البلدات اليهودية للمحافظة على الطابع اليهودي لهذه البلدات. إسقاط كلمة النكبة من الكتب الدراسية العربية وبالمقابل إلزام المدارس العربية بتعليم ثلاث حصص أسبوعية على الأقل من أجل «تعليم الصهيونية وتاريخ أرض إسرائيل ودولة إسرائيل». إعطاء وزير الداخلية تخويلا كاملا بـ«نزع المواطنة» من دون حاجة إلى موافقة المحكمة أو المستشار القضائي للحكومة. تمديد اعتماد «قانون المواطنة» العنصري لعام 2003، كأمر مؤقت، لمنع جمع شمل عائلات أحد شقيها من مناطق «الخط الأخضر» والشق الآخر من الأراضي المحتلة في الضفة الغربية أو قطاع غزة. إعطاء جهاز «الشاباك» حق سحب المواطنة من أي مواطن.

الصوت الإسرائيلي واضح في هذه القوانين والتشريعات: إما إعلان «الولاء» لـ «دولة اليهود»، وإما التفتيش عن بلاد أخرى!!. لا معنى لهذه القوانين غير هذا المعنى. والأمر الثاني يراد من هذه القوانين أيضا إخافة العرب وبالتالي جعلهم يتنازلون طوعًا عن مطالبهم وحقوقهم العادلة من خلال تخفيض سقف المطالب تحت يافطة التفكير «بعدم استفزاز إسرائيل للحيلولة دون تنفيذ مخططاتها بالترحيل». والمقصود تحويل قضية عرب الداخل إلى قضية مدنية. قضية مواطنة في «دولة اليهود».

ثم هناك ما يسمى بـ «الترانسفير البطيء». هذا المفهوم يجد تعبيرا له في مجالات متعددة، في الحياة اليومية للعربي الفلسطيني في إسرائيل، منها التشريد اليومي الحاصل للعرب في القرى غير المعترف بها. أو تضييق الخناق على عرب يافا. أو عرب اللد وعرب عكا. أو محاصرة المدن والقرى العربية بمستوطنات يهودية ضمن مخطط «تهويد الجليل» أو «تهويد النقب». أو مصادرة الأراضي العربية وحرمان العرب من أي احتياط من الأراضي للتطور الطبيعي مستقبلا. أو حرمان المدن والقرى العربية من مناطق صناعية، وأماكن عمل، ومصادر للرزق. أو سياسة هدم البيوت. أو التضييق عليهم في مجالات استكمال التعليم الجامعي بحجج مختلفة. أو اشتراط الحصول على وظائف بالخدمة العسكرية. أو إثارة الفتن الداخلية، بين أبناء الشعب الواحد، وبأيدٍ من أجهزة «الشاباك»، من خلال التلاعب بمصائر الناس وإثارة المشاعر الطائفية والعشائرية والقبلية. أو ضرب العرب ببعضهم البعض لإلهائهم عن قضاياهم الأساسية.

ما يجري هو نتاج عملية تراكمية. وهو الترجمة الفعلية والتفصيلية لمفهوم «يهودية الدولة». وأحداث أكتوبر 2000، في هبة القدس والأقصى، وقتل 13 شهيدًا عربيًا، هي المثال الأكبر على ما نذهب إليه. هناك جرى التعامل مع العربي على أنه «عدو لدولة اليهود». لذلك فإن قتله كان مباحًا. لم يجر التعامل معه على أنه «مواطن في دولة إسرائيل» له حق التظاهر والاحتجاج ورفع صوته. إنما كان التعامل معه من خلال فوهة بندقية. وقد أقرت لجنة التحقيق التي أقيمت في أعقاب «أحداث أكتوبر» (لجنة أور) بأن «الشرطة الإسرائيلية تعاملت مع العرب كأعداء وليس كمواطنين».

نعود إلى الأسئلة الصعبة: هل هناك محاولة جديدة لجر العرب إلى مواجهة غير متكافئة بهدف تهيئة رأي عام لتوجيه ضربة مستقبلية للعرب من خلال وضعهم، في إطار هذه المواجهة، في خانة «معاداة الدولة» وتسويق هذه الفكرة محليًا وعالميًا لتبرير أية خطوة مستقبلية تهدف إلى التخلّص منهم أو من جزء منهم؟. هل قضية العرب هي «مواطنة» و«ولاء» أم قضية قومية. وهل يمكن لإسرائيل أن تقبل بالطرح العربي. وإذا لم تقبل هل يمكن أن تنفذ ترانسفيرًا جسديًا بحقهم (في حالة حرب وفوضى مثلا).

ونسأل أيضا: لماذا هذا التشديد الآن على «يهودية الدولة»؟. وماذا يعني هذا التعريف بالنسبة للوجود العربي بعد التوصل إلى حل نهائي مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؟. هل حقًا إسرائيل يمكن أن تتعايش – أو أن تقبل التعايش - مع أقلية عربية فلسطينية في حدود دولتها نسبة وتيرة التزايد السكاني فيها أكبر بكثير من نسبة التزايد السكاني الطبيعي لدى اليهود؟. وكيف يمكن لإسرائيل - حسب وجهة نظرها - حل «معضلة» ما تسميه «الخطر الديمغرافي» العربي الذي يهدد مستقبلها؟. وكيف يمكن التعامل مع مجموعة تصفها إسرائيل بأنها «خطر على أمن الدولة» و«قنبلة موقوتة يجب تفكيكها قبل أن تنفجر في وجهها»؟. هل هاجس الترانسفير (الترحيل) ما زال قائمًا بالنسبة لها؟.

ماذا تحضّر المؤسسة الإسرائيلية للعرب في داخل حدودها؟. هذا هو السؤال المركزي في ظل المعركة الجارية على الهوية. وهنا ندخل في صلب الفكرة الصهيونية الجديدة القائلة بـ «الصراع الوجودي». فهل تحاول إسرائيل إشاعة هذا المصطلح لتهيئة الظروف لتنفيذ الترانسفير الجديد؟. وهل ستستطيع إسرائيل أن تحسم موضوع التسيّد وهوية الدولة على حساب الأقلية الفلسطينية في داخلها. وأصلا - وهذا هو الأهم في الموضوع - هل يمتلك عرب الداخل قدرة على المواجهة غير المتكافئة. هل هم مهيأون لهذه المواجهة. هل يملكون أدواتها؟.

للحديث وجهان. والممكن ممكن بالفكر الصهيوني. ومن المفيد أن يدرك العرب في إسرائيل أن ما يتعرضون له من انفلات عنصري غير مسبوق، إنما يتساير مع السعي لتكريس مفهوم «الدولة اليهودية الصهيونية» التي لا مكانة فيها للعرب، تمهيدا لنقلة نوعية على مسار «الحل الصهيوني النهائي» لوجود العرب الفلسطينيين داخل حدود 48، واستدراجهم إلى مواجهة محتومة غير متكافئة قد تحدث وتقع في ظروف معينة. وهذا ما يجب استكشافه والتعاطي معه بجدية لمواجهته وللحيلولة دون وقوعه، وعدم الارتكان إلى مقولة أن الدنيا تغيرت منذ عام 48 وأن العالم المتنور لن يسمح لإسرائيل، بعد مرور كل هذه السنوات، بتهجير وترحيل السكان الأصليين عن أراضيهم ووطنهم.

* كاتب وإعلامي فلسطيني يقيم في الناصرة