من أوهام المؤرخين

TT

التاريخ مليء بالأوهام والأكاذيب. ومن أكبرها الاعتقاد بأن العرب قوم محاربون فتحوا العالم بقوتهم وبأسهم وسيوفهم. ما من قول منافٍ للحقيقة كهذه المقولة. لقد فتحوا العالم في بحر نصف قرن لأنه لم يكن هناك من يقف في وجههم. الإمبراطوريتان الفارسية والبيزنطية كانتا تلفظان أنفاسهما الأخيرة. ولم يكن هناك من يحكم مصر والمغرب ليتحداهم. وانشغل القوم في إسبانيا والهند بالمنازعات الداخلية. ما إن أتم العرب فتوحاتهم حتى جلسوا للاستمتاع بالحياة وسلموا أمور الدولة، الدفاع والإدارة للعجم، الفرس والترك والسلجق والكرد ومن لف لفهم. انصرفوا لنظم الشعر وعزف الموسيقى وطبخ الفالوذج واللوزينج، والاستمتاع بالحسيات والجماليات. وبهذا أغنوا العالم بكل ما هو لذيذ وجميل. علموا المرأة الأوروبية، وبالتالي العالم، الحفافة والمكياج ولبس الحرير والرقائق واستعمال العطور، والجلوس على الأفرشة والوسائد بدلا من المقاعد الخشبية الفظة والاستلقاء على التخوت المجندة. ونشروا المؤلفات عن الحب والجنس. بدلا من الكؤوس والصحون المعدنية الثقيلة، علموا الغرب استعمال الأقداح الزجاجية الشفافة الرقيقة، والأكل من الصحون الصينية المزججة. أحدثوا ثورة في المطبخ الغربي الذي أدخلوا إليه استعمال التوابل والزعفران والعطور. في العهد البابلي طوروا صناعة النبيذ والبيرة، ويزعم أن تقطير الكحول اكتشف في العهد العباسي.

حب الحياة. هذا هو شعار العرب. الماء والخضراء والوجه الحسن. لم يتعلم الغرب أي شيء منا في مواضيع الحرب والدفاع. لا في فنون الحرب، ولا صنع السلاح ولا بناء القلاع. كلما رأيت حصنا منيعا في سلطنة عمان أدركت أن البرتكيز بنوه. وكلما رأيت حصنا ضعيفا متداعيا عرفت أنه من بناء العرب. العمارة الغربية تبهرك بقوتها وجبروتها ومناعتها. العمارة الإسلامية تدغدغك برقتها وزخرفتها وألوانها وزوالها. إنها مصممة للاستمتاع الفوري والزوال. البقاء لله وحده. الموسيقى الغربية تقوم على تلك الآلة الضخمة الرهيبة: قضبان البيانو. الموسيقى العربية تقوم على الأوتار الرقيقة للعود والقيثار النحيف.

لا أجد أي عيب في ذلك. هذا هو خيارنا. الاستمتاع بالحياة. فليذهب الغربيون ويتقاتلوا ويُبِدْ بعضهم بعضا على ما يحلو لهم. بيد أنهم جاءوا لديارنا واستنهضونا للقيام بما هو ليس فينا. أن نتسلح ونحارب. أوقعونا بهذا المطب.

عندما بعث الميكادو باليابانيين إلى بريطانيا تعلموا صناعة السفن وعادوا إلى ديارهم وأقاموا هذه الصناعات اليابانية التي اكتسحت العالم. وقبيل ذلك، بعث محمد علي الكبير بتلامذته إلى فرنسا ليتعلموا مثل ذلك. جلسوا في باريس ورأوا الماء والخضراء والوجه الحسن. عادوا إلى مصر وانشغلوا بنظم الشعر وترجمة الروايات الرومانسية وغناء «أنا حبيت وانتهيت».

بالطبع، أتوقع من القراء أن يثوروا على كل كلامي هذا. كل هذا الكلام الانهزامي. ولكن إقناعي بغير ذلك سيتطلب جهدا مما أشك بوجوده عندنا.