النصائح المبطنة لا تولد الثقة والاطمئنان في قلوب اللبنانيين

TT

النصائح التي وجهها أمين عام حزب الله إلى المسيحيين في لبنان.. هل كانت، حقا، نصائح؟ أم كانت تحذيرات؟ أم تهديدات؟! الجواب ليس، فقط، عند مواقف حزب الله الوفاقية المعلنة، أو مشاريعه المطوية مؤقتا، بل هو أيضا عند مشاعر المسيحيين - وغير المسيحيين من اللبنانيين - الذين لا يخفون قلقهم من وجود آلاف الحزبيين من أعضاء حزب الله المدربين على القتال، والمسلحين بعشرات الألوف من الصواريخ، والمستعرضين مرتين أو ثلاثا في السنة. وعبثا تحاول قيادة حزب الله إقناع المسيحيين، واللبنانيين، بأن هذا السلاح معد لصد العدوان الإسرائيلي على لبنان، وأنه لن يستعمل «في الداخل» (مع أنه استُعمل كأداة ضغط أو منع لممارسة الدولة لسلطاتها أكثر من مرة). فالاطمئنان لن يدخل إلى قلوب المسيحيين، واللبنانيين، بالكلام الجميل واليد الممدودة، بل انطلاقا من الواقع الراهن، أي: من قيام دولة تحتكر حمل السلاح، وتبسط سلطتها، وتحمي المواطنين، ولا تشعر بأن على أرضها قوة عسكرية حزبية عقَدية خارجية الانتماء أقوى منها.

ثم إن زرع الاطمئنان والثقة في نفوس المسيحيين، واللبنانيين، يتطلب عدم نكء الجراح القديمة، لا سيما جراح الحرب الأهلية، التي طُويت، مبدئيا، مع اتفاق الطائف.. فما من فريق أو حزب شارك في تلك الحرب المشؤومة إلا وارتكب ما لا تسمح الوطنية والإنسانية والدين بارتكابه من جرائم فردية وجماعية. ومن يستعرض الأحداث والتحولات والاشتباكات التي كانت تجعل من عدو الأمس حليف اليوم، ثم عدو الغد، يصعب عليه الحكم والتبرؤ. ويكفي أن تطوى تلك الصفحة المليئة بأسماء عشرات الألوف من «الشهداء»، و«الأبطال»، والخالية من أسماء المسؤولين عن الاقتتال «الأخوي».

كما أن زرع الاطمئنان والثقة في نفوس المسيحيين، واللبنانيين، لا يقتصر على المشاركة في حكومة اتحاد وطني، وإبداء الاستعداد للتعاون مع «أخصام» الأمس. بل يتطلب لهجة وخطابا سياسيا مختلفا عما نراه ونسمعه على شاشات التلفزيون، فرفع السبابة، وهزها في أثناء الخطاب، والنبرة المتشنجة، والكلمات المبطنة بالتهديد، تحمل يوميا إلى قلوب اللبنانيين كثيرا من القلق والخوف. وهل كان قياديو حزب الله وحركة أمل سيعتمدون مثل هذه النبرة العالية والمتشنجة في خطبهم لو لم يكن هناك أربعون ألف صاروخ بين أيديهم؟

نعم، ليس أعز على قلوب اللبنانيين، والمسيحيين في لبنان، من أن يتعاونوا مع حزب الله، وأمل، والقوى الإقليمية التي تساندهما وتوجههما، لبناء دولة قوية، ووطن موحد، ونظام ديمقراطي حقيقي. ولكن لا بد، قبل ذلك، من قيام ثقة متبادلة بين الفريقين. ولا بد من الاتفاق على أهداف استراتيجية مشتركة. وعندما يقول، ويؤكد، قادة حزب الله إن سلاح المقاومة خط أحمر، وإنه باق إلى أن تحرر فلسطين - أي لسنوات وأجيال - فذلك يعني أن حزب الله سيبقى «دولة ضمن الدولة»، وأن صوت سلاحه سيبقى أعلى من صوت كل الأحزاب السياسية الأخرى مجتمعة، ومن صوت الدولة.

ليس في لبنان - أو خارجه - إنسان واحد يعتقد أن قضية سلاح حزب الله - أو ما يسمى، تلطيفا، بالاستراتيجية الدفاعية - سوف تحل على طاولة الحوار. فالمنطق الذي تحكم في تأليف الحكومة الاتحادية، وفي بيانها الوزاري، يمنع التوصل إلى اتفاق على استراتيجية دفاعية. وقد يكون المخرج الوحيد من الضغوطات الإقليمية والدولية هو إبقاء هذه القضية معلقة. ولكن ماذا إذا اضطربت الأحوال مجددا في المنطقة؟ ماذا إذا اصطدمت إيران بإسرائيل والولايات المتحدة؟ ماذا إذا انفجر الوضع بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟! ماذا إذا صدر قرار التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحمل معه «متفجرات» للوضع الداخلي اللبناني؟

لا شك أن الوضع الراهن في لبنان، اليوم، أفضل بكثير مما كان عليه في السنوات الأخيرة، وأن تأليف حكومة وفاق وطني أفضل من بقاء المؤسسات الدستورية معطلة، وأن سياسة التعاون ومد اليد والإيجابية أفضل من تبادل تهم التخوين والاعتصام والسلبية. ولكن كل ذلك لا يحل المشكلات الخلافية الأساسية في لبنان، ونعني: مشكلة نظام الحكم، ومصير الوطن، وسلاح حزب الله، ودور لبنان في الصراع العربي - الإسرائيلي. ولسنا نرى، في الزمن الراهن، أي نافذة مفتوحة يدخل منها نور الحل.

وبانتظار فجر الخلاص، يبقى من الأفضل الامتناع عن نكء الجراح القديمة، وعن تقديم النصائح الجارحة من قبل أي من الأفرقاء.