الجهد السعودي

TT

كان خادم الحرمين الشريفين محقا حين دعا الفلسطينيين المتخاصمين إلى الكعبة للمصالحة. وكان محقا حين غضب عليهم، بعد أن قوض الانقلاب كل ما تم إنجازه، وعاد الخلاف والصراع والجفاء أكثر حدة من ذي قبل.

غير أن الغضب لم يسفر في واقع الأمر عن مقاطعة الجهد والدور، فلقد ألقى السعوديون بثقلهم من خلال دعم مفتوح لدور مصر، التي تظل في كل الظروف أكثر قربا «جغرافيا وسياسيا» من قلب الأزمة، ودون ترتيبات تقودها باسم العرب فلا أمل بالنجاح.

لقد بدأت المملكة تحركا منسقا مع جميع أطراف الأزمة، والقوى المؤثرة فيها، ورهان النجاح في هذا التحرك يظل جديا، ذلك أن المملكة لن تدخل في مصالحة عشائرية بين فريقين فلسطينيين، بل هي تفعل ما هو أكثر عمقا من ذلك، إذ إن المنطقة بأسرها أضحت بحاجة إلى جهد جديد لمعالجة أزماتها، الكامنة والمتفجرة، وليس سوى أعمى البصر والبصيرة من لا يرى الخطر يطل برأسه، ليس من غزة ولبنان حيث إسرائيل والانقسام الفلسطيني، بل من اليمن والسودان والعراق، إضافة إلى شبح الإرهاب الذي يغلف حياة المنطقة بأسرها، ويتخذ من أزماتها المستعصية مادة للتنفس والحياة والتأثير.

إن السعودية تتلمس هذا الخطر وتستشعره، ولئن أحرزت نجاحات نوعية في مواجهة الكثير مما يتصل به، بفعل جدية العمل الأمني والعسكري الذي قامت به، فإن المصادر الأكثر خطورة لكل ما يشيع القلق في المنطقة ليس محليا ولا موضعيا، إنها موجودة في كل مكان كبؤر نار، تجد على الدوام من ينفخ فيها، ويستثمر بمنطق مصلحي اشتعالها وفق أجندته الخاصة.

وهنا لا بد من مضاعفة الجهد وتوسيع مجال حركته وتكثيف فاعليته، ولا بد كذلك من الإشارة إلى العامل السوري الذي لا يمكن إغفاله في أي اتجاه يقرر العرب أن يمضوا فيه، ذلك أن سورية التي ابتعدت أو أبعدت بفعل عوامل التعرية السياسية الفتاكة في المنطقة، لا بد أن تأخذ وضعها الطبيعي في أي معادلة جديدة أو حتى قديمة، يحتاجها استقرار المنطقة، فإذا يممنا وجهنا شطر العراق فسورية أحد الممرات الإجبارية لأي جهد، ولا لزوم للتذكير بالنفوذ البديهي لسورية في لبنان والساحة الفلسطينية، إضافة إلى البعد الهام على الصعيد الإسلامي، من خلال العلاقات السورية المتنامية مع قوتين عملاقتين هما تركيا المعتدلة، وإيران المتطرفة.

إن سورية تكره أن يتدخل أحد في إدارتها الخاصة لسياساتها ومصالح نظامها، فهي لا تحب المعادلة التي تقول: إن لكم حصة كبيرة في الكعكة العربية لقاء الإحجام عن الاستفادة من العلاقة مع إيران مثلا، ذلك أن سورية تفضل على الدوام أن تحكم استنتاجاتها وقراءتها لمصالحها بعيدا عن نصح من هذا النوع، فسورية وليس غيرها، من يغلق الباب الإيراني لو رأت أن خطرا ماحقا سيأتي من خلاله، أما إذا كان الأمر وفق أجندات أخرى فإن لدى سورية قدرات تجارية مهنية كافية للإفادة منها في التكتيكات السياسية.

لهذا، لم يعد أمام أي لاعب في منطقتنا، ومن أجل منطقتنا، سوى أن يتوقف عن الاشتراطات والمقايضات التي لا تستقيم مع المنطق السياسي الذي تحكمه المصالح وليس الأدبيات الجاهزة، ولعل المملكة أكثر من أدرك ذلك في الماضي، وتدركه في الحاضر، ومن أجل المستقبل، لهذا وبعد كل الذي أنجزته مصر في ماراثون المصالحة الفلسطينية، وما لم ينجز حتى الآن بين سورية ومصر.. يجب أن تتولاه المملكة، فهي الأكثر تأهيلا لذلك، وحين تدخل السعودية على خط كهذا فلن تثور أية حساسية من أي نوع ولدى أي طرف.

إن الواقع العربي لا يعاني من أزمة خيارات تولد تناقضات وعداوات جذرية، فكل العرب يريدون تسوية سياسية مع إسرائيل، وبوسعهم الاعتماد على الترياق السعودي الذي أنتجته المملكة باسم المبادرة العربية للسلام، وكل العرب بحاجة إلى تنظيم علاقتهم مع إيران، على أسس توازن المصالح والاحترام المتبادل، إذ ما لإيران لإيران وما للعرب للعرب، ولا مجال لافتراض فراغ إقليمي في الدائرة العربية، حتى يبدأ مزاد من نوع غريب، مادته: من يملأ هذا الفراغ؟ تركيا أم إيران أم إسرائيل؟ ولا غرابة أن يدخل في المزاد أصغر دولة في العالم.

إن الفراغ الذي يُرى في الإناء العربي الواسع، يمكن أن يملأ بماء عربي، ويُحمى بتحالفات مع الجوار، وحين تشتد العضلة العربية المركزية بثالوثها التقليدي مصر وسورية والسعودية، ويلتئم حولها كل المستفيدين من تعريب الفراغ، ساعتئذ ستتسابق دول العالم على التحالف مع القوة الجديدة أو المتجددة، وشتان بين تسابق للإفادة من واقع نشط وفعال ومبادر، وبين تسابق لملء الفراغ لدى أمة تعيش فوق أهم بقعة جغرافية في عالمنا المعاصر.

* وزير إعلام سابق وسفير فلسطين السابق في مصر.