سجين رأي: إعادة تعريف!

TT

يعرف العالم اليوم من يقول رأيا فيتعرض للسجن والاعتقال بسبب قوله بأنه «سجين رأي». وهي ترجمة لمصطلح Prisoner of Conscience الذي لو ترجمناه حرفيا لصار «سجين ضمير». رحت أبحث عن العلاقة بين الرأي والضمير. وعن سبب ترجمتنا للضمير بأنه يعني الرأي، فهل الرأي يعبر دوما عن الضمير؟ وهل الضمير دوما يعبَّر عنه بالرأي؟ وهل تعطي الكلمتان المعنى ذاته؟

يرتبط السجن بسبب القول بالطغيان، فالطغاة لا يتقبلون من ينتقدهم، ولا يسمحون بمن يعارضهم. هكذا سجل لنا التاريخ: اقطع عنقه يا سياف، أو احبسه حتى يموت، أو اقطع لسانه كي لا يعيد قولته ثانية!!

كما ارتبط سجن المخالف والتعزير به ومصادرة حريته البدنية وتعرضه للإهانة والتعذيب بالتخلف. الطغاة متخلفون دوما. الأحرار متقدمون بالضرورة. الواثقون متسامحون، والطغاة خائفون وموتورون. الأحرار أذكياء، والطغاة أغبياء غالبا ما تكون نهايتهم بائسة ومروعة، هكذا يقول لنا التاريخ.

ترتبط كلمة الرأي بمعان كثيرة، ولكن أقربها للذهن في عالم اليوم مرتبط بالحرية والتعبير. وهي حق طبيعي من حقوق الإنسان أقرتها جميع الشرائع والتشريعات. وصحف عربية كثيرة تسمى «الرأي» لما للكلمة من وقع وجاذبية وتعبير لدى قارئها.

ومن الرأي اشتقت كلمة الرؤى وهي الأحلام والتهيؤات والأوهام، فالطاغية يعيش الأوهام، ويظن سوء الظنون ولا يثق بمن حوله، ويذهب بعيدا في تفسيراته، أو كما نقول في الخليج: «يتراوى له». يعيش حالة من الخوف الوهمي تسمى في علم النفس «بارانويا»، وحالة من العزلة الذاتية، على الرغم من بهرجة الحاشية وزمامير المنافقين والخائفين.

والرؤية تعني البصر، فتنعدم الرؤية في أجواء الغبار وقد تغلق المطارات والمواني وتجري حوادث السيارات والكوارث.

وتعني الرؤية البصيرة أيضا، فيقال: «فلان ذو رؤية ثاقبة»، ويقال: حاكم يمتلك «رؤية لمستقبل بلاده». وتعني الاعتقاد والظن فيقال: «أرى أن الضمير والرأي مترابطان»، بمعنى أعتقد.

والرأي يعني المشورة، والطغاة لا يشاورون إلا ليحصلوا على تأكيدات «صواب» رؤاهم ونظرتهم، وينتشون وهما بعبقريتهم حين يطبل من حولهم بثاقب رؤيتهم وفراستهم وعقليتهم الفذة.

الأحرار يقدسون الرأي، ويرون التعبير عنه في عالم اليوم خطا أحمر لا يمكن أن يتنازلوا عنه مهما دفعوا من ثمن. وقد قال المتنبي: «الرأي قبل شجاعة الشجعان». فقول الرأي والحق بحرية وشجاعة تفوق في أهميتها شجاعة القتال والمواجهة البدنية. والطغاة جبناء يخافون من يخالفهم، وهم كما يقول المثل الشعبي بحق: «لا راي ولا مروّه».

أما البحث عن معاني الضمير فإنه يقودنا لما قد يبدو مخالفا لمعنى الرأي. فمن معانيه «أضمر» أي أخفى الشيء، والخفية تتناقض تناقضا تاما مع الرأي الذي يتطلب العلنية والإفصاح. وأضمر في نفسه شيئا، أي أخفاه. والطغاة حين يقمعون الرأي لا يعرفون ما قد يضمره لهم شعبهم من مشاعر حقيقية تجاههم، فالمضمر - أي المخفي - عدو المعلن، والرأي والعلانية متلازمان، فما خفي أضمر، وما قيل أعلن وأصبح معروفا غير مجهول.

ولأن الطغاة أغبياء بطبيعتهم، فإنهم حين «يعمهون بطغيانهم» يزدادون غباء وعزلة وخوفا وهميا. فيرتكبون الحماقات، ويخالفون المنطق في تصرفاتهم وسلوكهم وقراراتهم، ولا يجدون من حولهم من يقول لهم «نقدا» أو حتى «رأيا» يخالف ما يقررون.

الضمير عند أهل اللغة والنحاة ما دل على المتكلم مثل «نحن»، أو المخاطب «أنتم» أو ضمير الغائب وتقديره «هو» مثلا.

الترجمة العربية أصح من الأصل الإنجليزي. الرأي أولى من الضمير الغائب. حين يغيب الرأي، يغيب الضمير، لا ضمائر بلا آراء حرة. غائب الرأي ومنعدم الضمير هو السجين حقا.

الحاجة ملحة لتعريف جديد لسجين الرأي!!