سنوات في مصر27: السادات لم يكن أول المعترفين بإسرائيل!

TT

كان الياهو ساسون، اليهودي من أصل سوري، في طليعة اليهود الشرقيين الذين خدموا «الصهيونية» قبل مولد الدولة العبرية، وبعد مولدها. وكان يتمتع بعلاقات مختلفة وحميمة مع المئات من رجالات العرب في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين! وكان يجيد اللغة العربية كأحد أبنائها، كما كان من أبرع العازفين على «آلة» العود الشرقي، وعلى مختلف الدرجات والألحان والمقامات. وكانت مكتبته الخاصة في القدس تضم الآلاف من اعداد الصحف العربية والشرقية، مع المئات من أنواع الكتب والوثائق القديمة والحديثة. وقد جاء إلى فلسطين من دمشق، حيث كان يعمل صحفياً ناجحاً حتى عام 1928 وانخرط يومئذ في العمل ضمن موظفي شركة كهرباء القدس ومنها انتقل إلى مكتب (ابراهام سيتون) للعمل في البلدة القديمة كمحاسب في تجارة «المانيفاتورة». ثم دخل إلى الوكالة اليهودية وأصبح مساعداً لموشيه شاريت (شرتوك) في الاتصالات مع الدول العربية المجاورة واستمر في عمله حتى عام 1935. وعند قيام دولة اسرائيل اصبح الياهو ساسون أول سفير اسرائيلي لدى تركيا! وعاد إلى البلاد في عام 1947، وبدأ اتصالاته مع الملك عبد الله وطلب منه الافراج عن أسرى اليهود لدى الجيش الأردني إثر حرب عام 1948. ومن تركيا إلى روما.. ومن إيطاليا أصبح «الياهو» سفيراً لإسرائيل في المنظمات الدولية في جنيف.. إلى ان استدعاه بن غوريون وادخله في حكومته كوزير للشرطة، ثم وزيرا للبريد والهاتف. وعندما استدعاه بن غوريون وأخبره أنه سيصبح المرشح الأول في رئاسة الدولة الإسرائيلية، أصيب الياهو ساسون بنوبة قلبية نتج عنها شلل نصفي كامل وبقي طريح الفراش لمدة سبع سنوات طوال، حتى وفاته! وفي مدة السنوات السبع التي لازم فيها الياهو ساسون فراش المرض، كان ابنه الوحيد «موشيه» ساسون يلازمه في الليل والنهار، ويستمع منه ـ وبالتفصيل ـ إلى حديث الذكريات والمذكرات والأسرار. ومات الياهو وترك وراءه ابنه موشيه.. ومشى الابن على خطى أبيه، وأصبح سفيراً لإسرائيل في إيطاليا، ثم في تركيا، ومصر، وكما تفرغ الابن لكي يستمع إلى كلام والده، كذلك استطعت أن أقنع «موشيه» الابن أن يكشف لي ما يقدر عليه من مذكرات وذكريات، كان قد سمعها من والده الذي مضى! ويجب أن أقول شيئاً: انني من خلال احاديثي المتعددة مع مفكرين وإعلاميين وديبلوماسيين يهود، احتل بعضهم مناصب اكاديمية رفيعة في جامعات تل ابيب والقدس، وفي طليعتهم هذا السفير الديبلوماسي المعروف، موشيه ساسون، نجل الياهو ساسون، الذي استمعت منه إلى الكثير من الأسرار والطرائف والحقائق والقصص عن تطور اللقاءات اليهودية مع اقطاب العرب، متى وكيف بدأت، وماذا اثمرت.. وكيف انتهت؟

قال لي موشيه ساسون، الذي شغل منصب سفير اسرائيل السابق ـ لمدة سبع سنوات ـ في مصر والصديق المقرب للرئيس المصري الراحل انور السادات، وهو يستعرض صوراً من اللقاءات العربية ـ اليهودية التاريخية والسرية، قبل ولادة دولة اسرائيل، بعد أن سمع من والده الكثير، وبعد ان اطلع على المئات من الأوراق والوثائق «ان انور السادات لم يكن الأول في مفاجآت الصلح مع إسرائيل..»! استمعت إليه، في لقاء جمعنا في القدس، واحتفظت لنفسي بالمقاطعة والتعليق إلى أن ينتهي من كلامه. قال موشيه ساسون: «.. لقد أجرى عدد من قادة وشخصيات الحركة الصهيونية اتصالات ومفاوضات مع قادة وزعماء من الحركة القومية العربية قبل عدة سنوات من إقامة الدولة بهدف التوصل إلى اتفاق يهودي عربي حول الحكم بأرض فلسطين وللعيش بسلام وحسن جوار».

«.. في تلك السنوات، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، لم يكن هناك في الشرق الاوسط موقف عربي متشدد ومناهض للصهيونية، كما حدث في وقت لاحق».

«.. فالحركتان الوطنيتان اليهودية والعربية، كانتا في بداية طريقهما ولم تصلا بعد إلى طريق المواجهة الكلامية والتحديات الحربية، ولهذا فإن الاتصالات السياسية أسفرت عن ما يبدو شبه اتفاق أو ترتيبات بينهما».

مثلا:

* اتفاق فيصل بن الحسين مع وايزمن في 3 يناير (كانون الثاني) عام 1919.

* موقف الوفد السوري للجنة السلام في باريس عام 1919، بعد الحرب العالمية الأولى، عندما أعلن رئيس الوفد ـ شكري غنام ـ أمام اللجنة عن تطلعاتهم لإقامة سوريا مستقلة ومنفصلة «وفي إطارها تعمل الحركة القومية السورية على التوصل إلى تفاهم وترتيبات مع الحركة الصهيونية يعتمد على فتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية، وأن يحكم اليهود فيها عندما يصبحون الأغلبية، ولحين ذلك تتمتع فلسطين بحكم ذاتي مرتبطة فدرالياً مع سوريا المستقلة المنفصلة»!

* الاتفاق بين جماعة القوميين في سوريا ولبنان (بزعامة نجيب سفير وكان معه يوسف موازين، ورشيد فارس، ونجيب هاشم، وانطون شحادة)، مع التنظيم اليهودي، والذي وقع باسم «يشوع حذكفن» في 26 مارس (آذار) 1920، وفي البند الأول من الاتفاق جاء «ان حكومات سوريا ولبنان تعترف باستقلال فلسطين ويكون للحركة الصهيونية الحق في بناء وطن قومي للشعب اليهودي فيها..»!

* ثم اتفاق بين ممثل الوكالة اليهودية، وكان يمثلها يومذاك «برنارد جوزيف»، وتوفيق عواد نيابة عن البطريرك الماروني في لبنان «انطون عريضة» في 30 مايو (أيار) 1946.

* كما كانت هناك مفاوضات مهمة، الأولى مع مصر والثانية مع الأردن في السنوات القريبة من إقامة الدولة، وعلى الأقل في واحدة منهما وبالتحديد مع الأردن حيث كان هناك تأثير بالغ الأهمية على سير حرب عام 1948.

ويمكن القول إنه حتى إقامة إسرائيل ترأس المفاوضات والاتصالات السياسية مع القادة الزعماء العرب في المنطقة وفي ارض فلسطين، عدد من الزعماء اليهود المعروفين من بينهم: حاييم وايزمن (من خلال ممثله الكولونيل كيش)، وديفيد بن غوريون، وحاييم ارلوزورف، وموشيه شرتوك (شاريت)، ودوف هوز، وبرنارد جوزيف (دونف يوسف)، وغولدا مايرسون (مئير)، وحاييم مرغليوت، واهرون حاييم كوهين، والياهو افشتين (ايلات)، والياس (الياهو) ساسون، وروفين زسلني (شيلوح) وعزرا دنين.

وكل الاتصالات التي كانت باسم الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية استمرت منذ اندلاع حرب «الاستقلال» (لقاء غولدا وعزرا دنين مع الملك عبد الله ملك الاردن في ليلة 12 مايو 1948).

واستطرد ابن ساسون قائلا: وهنا يجب لفت الانتباه إلى أن ديفيد بن غوريون بعد انتخابه لمنصب الادارة الصهيونية عام 1933، بدأ فوراً بتبادل الاحاديث بصورة شخصية مع قادة وشخصيات عربية فلسطينية من بينهم موسى العلمي، وعوني عبد الهادي، واحسان الجابري، وشكيب ارسلان، وجورج انطونيوس! وفي مرحلة معينة (نهاية عام 1933)، كانت هناك امكانية للقاء بين بن غوريون والمفتي الحاج امين الحسيني، ابرز زعيم عربي داخل فلسطين آنذاك.

ثم اضاف: لقد ولدت الحركة الوطنية الفلسطينية في الوقت نفسه مع الحركة الصهيونية السياسية! وهذه الحركة التي كان يتزعمها الحاج امين الحسيني، كانت منذ يومها الاول ضد هجرة اليهود وضد الاستيطان، على عكس الحركات العربية الاخرى في المنطقة التي بدأت بمسار الحوار معنا. وقد بدأت الحركة الوطنية الفلسطينية العربية بطريقة المواجهات ومقاومة الحركة الصهيونية بأهدافها وأعمالها. فبعد عام واحد على صدور وعد بلفور اقام امين الحسيني النادي العربي بالقدس، والذي كان مركزا للنشاط ضد الصهيونية، ثم انضم الى المفتي زعيم فلسطيني آخر هو عارف العارف، ومعا كان الاثنان من الشخصيات الاكثر فعالية في المنتدى العربي الفلسطيني. وحتى في ابريل (نيسان) 1920 اشترك المفتي في احتفالات «النبي موسى» بالقدس وبعد خطاب تحريضي تظاهر جمهور كبير من الفلسطينيين في الحي اليهودي بالبلدة القديمة وحرقوا بيوت اليهود ووضعوا متفجرات وقاموا بمذابح.

ثم قال ابن ساسون : «.. وعلى خلفية سياسة الانتداب البريطاني في ارض فلسطين (الالتزام المزدوج) وفق المصالح البريطانية ـ الفرنسية بالمنطقة، وعلى ضوء التطورات في عدد من الدول العربية المجاورة يمكن القول بأن الحاج الحسيني استطاع ان ينقل الحركة العربية القومية على صعيد المنطقة من مسارات الحوار الى مسارات التصادم السياسي العسكري، فلقد استطاع خلق رأي جماهيري ضد الصهيونية ليس في فلسطين فحسب، بل في عدد من الدول العربية المجاورة، وقد أيده عدد من الزعماء العرب المهمين في المنطقة! ولأول مرة استطاع المفتي ان يخلق نوعاً من الإحساس لدى زعماء عرب تجاه مصير عرب فلسطين! نعم لقد كان هو الذي اوجد البنية التحتية لاستغلال المشكلة الفلسطينية على يد بعض الزعماء العرب في المنطقة لأهداف قومية محلية عند بعض الدول المجاورة. وفي يناير عام 1948 قيّم والدي (الياهو ساسون) امام بن غوريون الوضع قائلا: لقد حقق المفتي معظم مطالبه وحتى أكثر مما كان يتوقع..»! واستطرد ساسون قائلا: «.. ان سياسة الحاج أمين الحسيني، ومقلديه مثل احمد الشقيري، امتازت بالقتال بكل الوسائل بدون اظهار النية لقبول حلول وسط. كانت هذه هي طريقة الحركة الوطنية العربية الفلسطينية منذ ظهور المفتي في عام 1920، وحتى اتفاق اوسلو عام 1993، اي تحويل الموضوع الفلسطيني خلال 73 عاماً إلى الموضوع الرئيسي والمركزي في الشرق الأوسط. وفي الاتجاه نفسه الموازي له، جرت جهود حقيقية منذ عام 1918 بهدف محاولة توجيه الاحداث نحو مسار الحوار والاتفاق حتى الانطلاقة الحقيقية التي جاءت على يد الدولة العربية الأولى في المنطقة من خلال زيارة الرئيس أنور السادات للقدس في عام 1977..».

واضاف السفير موشيه ساسون يقول لي: «.. ان الهدف من هذه القائمة هو التطرق إلى أسس المسيرة السلمية الحالية (وليس لمسارات المواجهات والتصعيد)، ومن الواجب أولا أن نولي اهتمام جذب لتلك الاتصالات والاتفاقات التي بدأت تتراكم قبل إقامة الدولة، كما أن لقسم منها تأثيراً على مستقبل العلاقات العربية ـ الاسرائيلية حتى بعد اقامة الدولة العبرية. مثلا: في مارس عام 1918، نشرت مقالة في صحيفة «القبلة» في مكة المكرمة، عندما كانت تحت سيطرة الشريف الحسين بن علي، ودعت المقالة إلى التعاون مع اليهود والحركة الاستيطانية في فلسطين!! وفي يونيو (حزيران) من العام نفسه، جرى لقاء بين حاييم وايزمن والأمير فيصل بن الشريف حسين من جهة أخرى! وفي ذلك اللقاء وجد الاثنان ان بينهما تفاهما كبيرا في ما يتعلق بمستقبل الحكم في ارض إسرائيل. وبعد ستة أشهر، أي في 3 يناير عام 1919، وقع الاثنان في لندن على اتفاق اعترفت فيه المملكة العربية في الحجاز (بزعامة الشريف حسين) بوعد بلفور (البند IV) مع ضمانات كاملة لتطبيق الوعد البريطاني في (7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917)، كما اعترفت الدولة العربية بحق الشعب اليهودي بالهجرة الحرة والاستيطان في ارض اسرائيل (بند IV لتشجيع وتسريع الهجرة اليهودية بواسطة تجمعات سكنية مكتظة واستغلال مكثف للارض)، وفي الاتفاق المذكور نفسه، اعترفت الحركة الصهيونية من جانبها بأن االاماكن المقدسة للمسلمين ستكون تحت سيطرة (Control) المسلمين (البند IV). وبعد 75 عاما، نجد بصمات هذا البند في اتفاق السلام الأردني ـ الاسرائيلي (البند 9) من عام 1994، حيث تعهدت اسرائيل بـ«اعطاء مكانة مميزة للدور التاريخي الذي لعبته المملكة الاردنية الهاشمية في الأماكن المقدسة لحين الانتهاء من التفاوض مع السلطة الفلسطينية على الوضع النهائي!».

قلت مقاطعاً: «.. ولكن المؤكد أن الشريف حسين لم يقابل ولم يلتق بأي صهيوني يمثل الحركة الصهيونية العالمية إلا بعد ان انكشفت اسرار اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة بين بريطانيا وفرنسا، واتصل الشريف حسين بعدها ببريطانيا يستفسر منها حول هذا الموضوع فأجابه الانجليز ـ بكل خداع ومهارة ـ ان ما جرى ليس معاهدة رسمية بل مجرد تبادل وجهات النظر ومباحثات بين الدولتين».

ثم اضفت: أما عن الاتفاق الثاني بين فيصل ووايزمن، فإن صديقي الأمير الحسن بن طلال، والمعروف باتصالاته وعمق ثقافته ودراساته، يقول بأن الأمير فيصل أوضح لحاييم وايزمن بأن طلبه المذكور لن يطبق إلا بعد اعلان سوريا بأسرها ـ بما فيها فلسطين ـ دولة عربية مستقلة. وفي ما يتعلق بالرؤية السياسية في تلك الفترة من الافضل ان نذكر الاقوال المشهورة للأمير فيصل في رسالته المعروفة لفليكس فرنكفورت في 3 مارس 1919، من بين ما كتب «ان الحركتين مكملتان لبعضهما البعض.. الحركة اليهودية ليست حركة وطنية ولا امبريالية، وعليه اعتقد بأنه لا يمكن لحركة من الحركات الوطنية ان تنجح نجاحاً حقيقياً بدون اتفاقية مع الاطراف الاخرى! ولأسباب مختلفة نابعة من التزامات بريطانيا لحليفتها فرنسا (اتفاق سايكس بيكو 1916) الخاص بتقسيم النفوذ في الشرق الاوسط بعد هزيمة الامبراطورية العثمانية وعلى ضوء عدم التنفيذ الكامل لتعهدات بريطانيا للأمير فيصل، لم يخرج اتفاق فيصل ـ وايزمن لحيز الوجود! ورد ساسون: «.. لقد ادعى مؤرخون عرب بأن هذا الاتفاق وُقِع تحت تأثير ضغط بريطاني كبير، كما ادعوا ان الأمير فيصل لم يكن مخولاً للتوقيع باسم الحركة العربية ولا بالظهور كناطق باسمها في مؤتمر السلام في باريس. واضاف هؤلاء المؤرخون بأن الامير فيصل (مع والده الملك حسين بن علي) رأوا في موضوع الاستيطان اليهودي بفلسطين موضوعا انسانيا وليس سياسياً من شأنه أن يؤثر في السيادة العربية لفلسطين، ولكن هذه الادعاءات عارية من الصحة وتتناقض بصورة كبيرة مع الاحداث السياسية في تلك الفترة. وفي الإطار نفسه ظهر شكري غنام، رئيس الوفد السوري امام مؤتمر السلام آنف الذكر، واتفاق (يشوع حذكفن) في 26 مارس عام 1920، مع الكتلة الوطنية لسوريا ولبنان والذي جاء في بنده الأول ضمن ما تم الاتفاق عليه ما يلي: (إن حكومات سوريا ولبنان تعترف باستقلال فلسطين ويكون للحركة الصهيونية الحق في بناء وطن قومي للشعب اليهودي من خلال تنظيم هجرة كبيرة لليهود)! .. ان المهم في الموضوع هو ان اتفاق فيصل ـ وايزمن لم يكن ظاهرة هامشية شاذة، بل كان إيماناً صادقاً بالمواقف الوطنية لرؤساء البيت الهاشمي والذين كانوا ممثلين للحركة العربية بمجملها، وكما كانت عليه مواقف القادة والزعماء العرب الآخرين تجاه الحركة الصهيونية في ذلك الوقت»! اضاف ابن ساسون: «.. وعندما تولى الأمير فيصل زمام الحكم في سوريا واصبح ملكاً عليها، دعا إلى قصره والدي الياس (الياهو) ساسون، الشاب ابن 19 عاما، الذي ترأس الشبيبة الصهيونية في دمشق وأصبح في الوقت نفسه عضوا في الحركة الوطنية العربية، واقترح عليه اصدار صحيفة يومية باللغة العربية وبتمويل من الملك نفسه، بهدف التقارب بين الحركة الصهيونية والحركة القومية العربية، وصدرت الصحيفة في دمشق وترأس تحريرها الياس ساسون، وقد صدرت بواقع ثلاث مرات بالاسبوع ولمدة تسعة اشهر ثم توقفت بعد طرد فيصل من دمشق على أيدي الفرنسيين في 28 يوليو 1920». وواصل: «.. ورغم التوتر الذي ساد المنطقة في سنوات العشرينات والثلاثينات (مظاهرات 29 ـ 36 ـ 39) بين العرب الفلسطينيين واليهود، استمرت الاتصالات السياسية بين رؤساء الوكالة اليهودية وزعماء عرب مهمين في المنطقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر اللقاء بين حاييم وايزمن وموشيه شرتوك (شاريت) من جهة، مع الزعيم السوري المعروف جميل مردم في باريس في بداية عام 1936، وكان التمهيد لاتفاق يهودي ـ عربي. كذلك لقاءات الياهو افشتين (ايلات) والياهو ساسون مع قائمة طويلة من الشخصيات المهمة من زعماء الحركة الوطنية السورية في دمشق في الوقت نفسه الذي وقعت فيه اكثر المظاهرات دموية في البلاد».

وخلفية هذه اللقاءات كما كان يؤكد الأب الياهو ساسون لولده موشيه «كانت المفاوضات التي جرت في الوقت نفسه بين فرنسا والكتلة الوطنية السورية من أجل التوقيع على اتفاقية تتمتع فيها سوريا بمساحة واسعة من الاستقلال السياسي، في حين طلب الزعماء السوريون مساعدة الحركة الصهيونية، خاصة ان رئيس الحكومة الفرنسية كان «ليون بلوم» اليهودي الذي لعب دوراً كبيراً في عام 1929 في تكوين الادارة الصهيونية الموسعة للوكالة اليهودية».

«.. وترأس الوفد السوري في اغسطس 1930، شكري القوتلي (الذي اصبح رئيس سوريا بعد الاستقلال)، وضم الوفد السادة لطفي الحفار وفخري البارودي وفائز الخوري، وجميعهم من الزعماء المعروفين! وفي عام 1937 وبعد ان تولت الكتلة الوطنية الحكم، اجتمع الياهو ساسون والياهو افشتين في دمشق مع جميل مردم رئيس حكومة سوريا، وشكري القوتلي، الذي تولى وزارة الدفاع في ذلك الوقت، وفخري البارودي الذي تولى وزارة الإعلام السورية». ثم قال موشيه ساسون مستطرداً: «.. وقد كتب الياهو ساسون عن ذلك الاجتماع قائلا: لقد أعرب القوتلي عن أمله في أن اتفاقا يهوديا عربيا سيجلب فائدة اقتصادية لأرض فلسطين ولسوريا، وان السوريين سيسعدون كثيرا اذا عم الرخاء والهدوء في ارض اسرائيل وسوريا معاً». وحول اللقاء مع جميل مردم قال: «لقد شكرنا على التهاني التي ارسلها له حاييم وايزمن وموشيه شرتوك» واضاف «ان اللقاءين اللذين كانا له مع وايزمن تركا انطباعاً ايجابياً، واكد انه طالما ان لدى اليهود سياسيا رفيع المستوى من امثال وايزمن، وخبيرا في شؤون الشرق الاوسط مثل موشيه شرتوك، فإنه، أي جميل مردم، سيكون متفائلاً وعلى قناعة بأن أي سؤال عن العلاقات بين اليهود والعرب عاجلاً أو آجلاً سيجد الإجابة عنه! وقال جميل مردم انه حتى الآن لم يتحقق السلام بين الشعبين، لكنه نزاع بين اقرباء وليس بين غرباء».

واضاف موشيه ساسون انه إلى جانب اللقاءات الكثيرة مع القادة السوريين واللبنانيين، كانت هناك لقاءات مع قادة مصريين وعراقيين ومع الأمير عبدالله في الأردن. «.. لقد بدأت المفاوضات مع مصر عام 1945 بلقاء بين حاييم وايزمن وعلي ماهر باشا رئيس حكومة مصر آنذاك، واستمرت الاتصالات مع مصر مع إسماعيل صدقي باشا ووزير خارجية مصر، وحضر اللقاءات الياهو ساسون، وقد أبدت مصر في ذلك الوقت اهتمامها بتأييد الوكالة اليهودية في صراع مصر السياسي حول مستقبل السودان ومستقبل القواعد العسكرية البريطانية في مصر.. وكان موقف مصر تجاه قضية اليهود آنذاك هو أن مصر مستعدة لمناقشة حل تقسيم فلسطين وحلول أخرى كإقامة دولة ثنائية القومية أو دولة فيدرالية، تعترف بوجود صلة بين قضية ارض فلسطين ومفاوضاتها البريطانية. وأمام المعارضة البريطانية في ذلك الوقت لتقسيم ارض فلسطين، أُجبرت مصر بضغط من بريطانيا على اتخاذ مواقف متطرفة اكثر في ما يتعلق بأرض فلسطين وتوقفت المفاوضات بينها وبين الوكالة اليهودية». «.. أما الاتصالات مع الملك عبد الله فقد ادارها ايضا الياهو ساسون واشتركت معهم بين الفينة والأخرى غولدا مائير، وايضا عزرا دنين، ويعقوب شمعوني.

*** وتحدث موشيه ساسون ايضا عن مرحلة ما بعد حرب 1948، فقال: «عندما سافر والدي إلى ميناء رودس لتوديع اعضاء الوفد المصري الذي كان يستعد للعودة إلى القاهرة بعد التوقيع على اتفاق الهدنة (24/2/49) قال رئيس الوفد المصري، محمد سيف الدين، لوالدي انه على قناعة بانهم سوف يلتقون في المستقبل القريب من أجل التفاوض على اتفاق سلام. ومن المعروف أن اتفاق الهدنة في طبيعته وصياغته هو اتفاق زمني مؤقت من أجل فترة اتفاقية قصيرة فقط»! وقال: «نحن رأينا في اتفاقيات الهدنة إنجازاً كبيراً لإسرائيل، على حد قول موشيه شاريت. والدول العربية التي وقعت على اتفاق فوري مع إسرائيل تم إنجازه كمرحلة انتقالية نحو السلام، وكان الشعور آنذاك بأنه تم خلق القاعدة النفسية للسلام. وفي هذه النقطة بالذات كانت سياستنا حينها تحمل آمالاً كبيرة. وبنظرة تحليلية فاحصة يبدو أن النقص الأساسي في اتفاقيات الهدنة هو أن الأطراف وافقت على تجميد الوضع على ارض الواقع على حاله، ولم يستطيعوا اتخاذ قرارات في تنفيذ تدريجي ومتفق عليه بين الأطراف! ورغم ذلك يجب القول إن تلك الاتفاقيات صمدت اكثر من الوقت الذي خطط له في خلال الاتصالات. وبين سنوات 1947 و1977 عند زيارة الرئيس السادات للقدس كان هناك الكثير من الاتصالات النسبية بين إسرائيل وجيرانها بما في ذلك عدد من مفاوضات السلام او اتفاقيات مرحلية، قسم كبير منها بقي سراً! «ففي يوليو 1948 سافر الياهو ساسون، وكان يشغل منصب مدير دائرة الشرق الاوسط في وزارة الخارجية، إلى باريس وأنشأ هناك قاعدة لإجراء اتصالات سرية مع حكومات وشخصيات عربية تمهيدا لمفاوضات مباشرة لوضع حد للحرب ولإيجاد حل للسلام! وبعد إنشاء القاعدة في باريس اخذ والدي الياهو ساسون اثنين من كبار موظفي الدائرة للعمل معه كطاقم! وفي وقت لاحق انضم إليه سليم نمور، وهو من كبار موظفي الخارجية الإسرائيلية. ومن تلك القاعدة تطورت الاتصالات ونجحت! وجرى الاتصال مع الدكتور كومران (الذي كان على اتصال مع حسني البرازي ومن خلاله مع حسني الزعيم بدمشق) وقمنا بإجراء اتصالات مع المسيحيين والشيعة في لبنان! كما أجرى مندوبنا سليم نمور اتصالات مع شخصيات عراقية. اما ساسون نفسه فقد جدد اتصالاته مع شخصيات اردنية، منها عبد المجيد حيدر، المستشار الملكي الأردني في لندن، ومع الدكتور شوكت الساطي، طبيب الملك عبد الله، ومع توفيق أبو الهدى، رئيس الحكومة الأردنية، ومع عبد الغني الكرمي الذي عمل إلى جانب الملك عبد الله! وأقام ساسون اتصالات مع مدير مكتب الملك فاروق والذي حضر لقاء بين ساسون وممثل عن الملك في باريس، وكان قد سافر إلى زيوريخ في سويسرا! «وفي الوقت نفسه اقامت اسرائيل اتصالات مع كل من قائد سوريا آنذاك اديب الشيشكلي بعد ان أطيح به وغادر البلاد للعيش بالمنفى في جنيف وعمل على اعداد انقلاب اضافي في دمشق يمكنه من العودة إلى الحكم. ووافق على أن يتعهد لإسرائيل (بواسطتي) ان تحافظ سوريا على الحدود هادئة عندما يعود الى دفة الحكم بهدف الفوز في المعركة العسكرية السورية وفقا لما تم الاتفاق عليه! كما تم الاتفاق بين ساسون والشيشكلي انه بعد عودته الى الحكم سيوقع مع اسرائيل على اتفاق عدم الاعتداء ويعتبر خطوط الهدنة لحفظ سلام اسرائيلي ـ سوري، وتمكن الشيشكلي من العودة سراً إلى دمشق حتى انه بدأ يستعد للقيام بانقلاب عسكري ولكن مسؤولين في سوريا، ومنهم قائد الأركان في الجيش السوري ورئيس المخابرات السوري الذين كانوا شركاءه، خانوه واجبروه على أن يغادر دمشق فوراً إلى المنفى مرة ثانية.

«.. وبعد نشاط دام اكثر من عامين، توصلت الى قناعة مفادها ان العالم العربي بقيادة جمال عبد الناصر لا توجد لديه امكانية للتوصل إلى اتفاق او ترتيب مع النظام المصري، وقررت الاستقالة من منصبي في جنيف، وفي الوقت نفسه ترقى «جوش فلمون» إلى منصب مستشار لشؤون الشرق الاوسط لوزير الخارجية وتم ارساله الى جنيف واجرى معه مفاوضات جديدة للسلام بين مصر واسرائيل.

«..واستطاع زميلي «زيامه ديبون» خلق نوع من الاتصال السري بين المستشار الاعلامي في سفارة مصر في باريس عبد الرحمن صادق، الذي كان من شباب حزب الوفد ثم تحول مع الزمن لرجل مهم مع الحكم المصري الجديد بعد ثورة 1952. وهذا الاتصال كان طبيعياً واستمر مدة طويلة نسبياً وخلاله تم تبادل الرسائل بين حكومة اسرائيل والسلطة الحاكمة الجديدة في مصر. ولاحقاً في عام 1954 وبعد تفكيك مركز الاتصالات في باريس، قرر جدعون رفال ـ المستشار رفيع المستوى لوزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط ـ تهميش المركز بحيث يشتمل على رجل واحد ووحيد، والهدف منه تكوين اتصالات سياسية مع شخصيات من الدول العربية من الذين اكثروا من زيارة سويسرا، والهدف السياسي الأول كان محاولة فهم ما يجري في اوساط القيادة العربية عبر تلك الشخصيات ومحاولة ايجاد عناصر ذات وزن ومكان لتمرير إمكانية التوصل إلى ترتيبات ومفاوضات».

«.. وبسرعة فائقة اتضح انه بهدف الوصول الى جمال عبد الناصر يجب التقرب من الدائرة الثانية المختصة به. وكان من الطبيعي خلق نوع من الاتصال مع رجال المعارضة المصرية في اوروبا، وعلى رأس هؤلاء كان محمود ابو الفتح، ممثل حزب الوفد المعارض في أوروبا، مع أخيه احمد ابو الفتح الذي ترأس محطة اذاعة معارضة للنظام الناصري كان مقرها مونت كارلو. وكانت هناك شخصية مصرية رفيعة المستوى جرى الاتصال معها، وهي السياسي المصري المخضرم علي ماهر باشا رئيس الحكومة الأولى بعد الثورة المصرية، الذي ساهم في كتابة الدستور المصري الجديد، واستطاع ان يوسع نشاطاته، خاصة في صفوف الأقليات العرفية والوطنية في الشرق! «.. يجب أن أقول بأن تغيّر الحكم في مصر في عام 1952، أثار في إسرائيل موجة من التفاؤل بالسلام حين جرت محاولة لخلق نوع من الاتصال مع محمد نجيب الذي ترأس الحكم الجديد، ودوره لم يكن سلبياً. وعندما تسلم عبد الناصر مكانه جرت محاولات لخلق اتصالات معه، لكن بدون جدوى، فتصرفات عبد الناصر دلّت على انه لا توجد نية مصرية للسلام! وللتذكير فلقد كانت لعبد الناصر ثلاثة أهداف وطموحات وهي التي حددت خط سيره، أولها أن يتزعم العالم العربي، وأن يكون زعيم الأمة الإسلامية، وأن يكون الناطق الرئيسي لقارة افريقيا. ومن أجل تحصيل كل هذه الأهداف توصل الى قناعة بأن الوسيلة الأسهل والأقصر هي في الانتصار على إسرائيل بواسطة جولة ثانية، ولهذا فلقد بدأت نشاطات الفدائيين الذين أرسلوا من قطاع غزة بهدف تنفيذ اعمال قتل داخل اسرائيل (وفي وقت لاحق ارسل فدائيون من مصر والأردن ولبنان). ورغم هذه التقديرات المتشائمة أُرسل في عام 1954 عضو البرلمان البريطاني اليهودي افربوخ الى الرئيس عبد الناصر من قبل الكونغرس اليهودي العالمي، وقبل أن يغادر افربوخ الى القاهرة اجتمع مع بن غوريون، ثم زار القاهرة ثلاث مرات، وبعد لقائه مع عبد الناصر اجرى اتصالا مع نائبه علي صبري، وفي نفس الفترة تم تبادل برقيات بين بن غوريون وناصر (بواسطة قناة الاتصال زيامه ديبون، وعلى الطرف الآخر عبد الرحمن صادق) بهدف انقاذ يهوديين مصريين اعتقلا بالقاهرة، ولم يوافق عبد الناصر على الصفقة، وكان آخر اتصال في تلك المرحلة بواسطة المستر جاكسون الذي سافر إلى مصر في محاولة لتبادل الأسرى.

«.. ومرة أخرى في عام 1961، جاءت مبادرة شخصية من بن غوريون نحو عبد الناصر، حيث توجه في عام 1961 لرئيس بورما (اونو) ولرئيس يوغوسلافيا تيتو، بطبيب يهودي لترتيب لقاء سري مع عبد الناصر، لكن الجواب كان سلبياً. وعندما توجه الصحفي البريطاني شارلز هملتون رئيس تحرير «صندي تايمز» الى عبد الناصر في محاولة اخرى كان عبد الناصر على قناعة بأنه لو جلس مع بن غوريون في غرفة واحدة وجهاً لوجه لأصبح بالإمكان التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل. وفي المحاولات الأولى، كان رد عبد الناصر لهملتون انه لا يستطيع ان يلتقي مع بن غوريون، الآن! وفي هذا السياق من الضروري التذكير انه حتى الاتصال السري الذي اجراه رئيس الموساد «مئير عميت» مع رجل اتصال مصري رفيع المستوى كان مصرياً وكان مع عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر، والذي جرى بين عامي 64 و65.. على كامل المعرفة به! «.. وإلى جانب هذا التنوع في الاتصالات، جرت في السنوات ما بين 48 و77 (سنة زيارة السادات للقدس)، سلسلة مفاوضات شاركت شخصياً في خمس منها، والهدف من هذه المفاوضات محاولة التوصل إلى اتفاقيات سلام كاملة أو جزئية، وكان الجهد المضاعف بصورة خاصة في سنوات 1948 ـ 1951، وبعد ذلك في سنوات 67 ـ 68. وجميع هذه المفاوضات لم تبصر النور ولم تنجح رغم ان قسماً منها كان جاداً للغاية.. وكان المبادر في أغلب تلك المفاوضات هو إسرائيل، وفي بعض الاحيان جاءت المبادرة من قبل عناصر دولية.

*** ويرى موشيه ساسون ان الملك عبد الله الاول، جد الملك حسين، اول زعيم عربي آمن بالسلام مع اسرائيل، يقول ساسون: «في احد اجتماعاتي الشخصية مع الملك عبد اللّه سألته: لماذا يريد وبشدة اتفاق سلام مع اسرائيل؟ واضفت قائلاً للملك: قبل سنتين أو ثلاث سنوات كنا في حرب مشتعلة!! وكان هذا سؤالاً عاطفياً قد يصل إلى الوقاحة، ومن اجل تخفيف وقع السؤال اضفت قائلاً: انا شاب صغير السن، وهناك الكثير من الأمور التي لا اعرفها وهناك الكثير من الأمور التي لا افهمها. وفي اعماق نفسي شعرت بانني استطيع ان اسمح لنفسي بطرح سؤال كهذا على الملك لأنني ابن صديقه الاسرائيلي المقرب، اعني انني ابن الياهو ساسون. وهنا سحب الملك يده عن كتفي وقال: انظر يا بني، اذا لم نتوصل لسلام معكم وبسرعة فان حرباً جديدة سوف تندلع بيننا، وبعدها حرب اخرى وبعدهما حرب ثالثة وحرب رابعة، وفي جميع تلك الحروب ستكونون انتم المنتصرين! ولهذا اعمل على التوصل لسلام معكم وبسرعة لأن هذا مصلحة حيوية لشعبي الاردن وفلسطين... ولوطني»! «... وبهذا يكون الملك عبد اللّه الزعيم العربي الأول من بين جيراننا الذي فهم منذ حرب الاستقلال وبالتأكيد بعدها بأنه لا امل في القاء اسرائيل في البحر! وكانت للملك عبد اللّه رؤية شجاعة وبعد نظر في محاولة التوصل إلى سلام معنا». وبعد 23 عاماً وصل الرئيس محمد أنور السادات إلى نفس النتيجة وتبناها بشجاعة بالغة. وبعد خمسة واربعين عاماً اي في 19 فبراير 1996 وفي لقاء مع حفيد الملك عبد اللّه، طلب مني الملك حسين ان احكي له لقاءاتي مع جده. ولقد حدثته عن مقولة جده، واضفت: المفاوضات السلمية مع الاردن بدأت في عام 1949 وبعد عكس الارقام 1994 كنت انت يا جلالة الملك الذي حققت رغبتنا وجسدت حلم جدك الكبير! ويتذكر موشيه ساسون يوم اغتيال الملك عبد الله، يقول: «كنت معتاداً أنا وعبد الغني الكرمي ان نزور بعضنا البعض (في غرب شرق القدس) لكي نقوم معاً بوضع ترتيب اللقاءات بين الملك وبين رؤوفين شليح، وفي احد تلك اللقاءات قال لي عبد الغني بأن الملك امره ان يعد في منزله (في الشيخ جراح بشرق القدس) وجبة عشاء وان يدعو اليها عدداً من رجال فلسطين والاردن المهمين ويدعوني معهم لكي احدثهم عن المفاوضات السرية واهدافها وايضاً لكي اعرض على مسامعهم نيات اسرائيل وسياستها. وتم تحديد موعد العشاء يوم الخميس 19 يوليو عام 1951. وفي غداة ذلك اليوم اي يوم الجمعة كان هناك لقاء بين الملك ورؤوفين شليح واقترحت على عبد الغني ان ابيت ليلتها في منزله حتى نتمكن منذ الصباح ان نخصص الوقت لترتيب ذلك اللقاء بين رؤوفين والملك. وكان من المقرر ان انتظر رؤوفين في منزل عبد الغني الكرمي للانضمام اليه في لقائه مع الملك في تلك الليلة ونعود بعدها إلى القدس الغربية. وفي نفس يوم الخميس وبالتحديد عند الساعة الخامسة بعد الظهر وعندما كنت استعد للحديث في تلك الليلة على وجبة العشاء، رن فجأة جرس الهاتف المباشر مع الملك والذي امره بالانضمام اليه في زيارة لنابلس في اليوم التالي، اي يوم الجمعة لاطلاعه على لقاء الملك مع رؤوفين. اذن لا نستطيع العمل معاً يوم الجمعة صباحاً ولا داعي ان اشارك في وجبة العشاء وان ابيت عنده».. «نقيم الوجبة في موعد متأخر» قال لي ان الملك ينوي مغادرة القدس مبكراً لزيارة نابلس والعودة من هناك مباشرة للمسجد الاقصى لأداء صلاة الجمعة..!».

«..وفي 20 يوليو 1951 جلست كعادتي بالقرب من المذياع في بيتي للاستماع إلى خطبة الجمعة التي كان الخطيب يلقيها بحضور الملك وكانت تذيعها محطة اذاعة رام اللّه التي كنت انت (ناصر الدين النشاشيبي) تديرها وتشرف عليها. وفجأة سمعت عبر المذياع عدة رصاصات، وبدا هذا غريباً وعلى غير العادة شعرت بقلق بالغ واتصلت فوراً بقائد العمليات في مقر القوات الدولية في جبل المبكر بالقدس وسألته: ماذا يجري في البلدة القديمة..؟ «لم يحدث اي شيء الملك يصلي في المسجد وكل شيء كالمعتاد». وبعد عدة دقائق اتصل قائد العمليات قائلاً: «من اين عرفت»؟ سألت «عرفت ماذا»؟ اجبته بسؤال فأجابني «لقد قتلوا الملك»! وفي نفس اللحظة مر امام عيني شريط الاتصالات والجهود الحقيقية التي بذلناها معاً مع ملك مؤمنٍ وشجاع من اجل التوصل وبسرعة إلى سلام عادل ومتين! وشعرت في داخلي بأنني تائه! ماذا كان يجري لو لم يدع الملك عبد الغني الكرمي لينضم اليه في جولته بنابلس؟ كنت قد بقيت في شرق المدينة وقت مقتل الملك. لقد كان الملك عبد اللّه رجلاً ذا رؤية وصاحب قدرة نادرة في التحليل، وكان رجلاً نادراً ووحيداً في سائر انحاء العالم العربي. فلو كانت له قوة شعبيته في بلده ولو كان يسيطر على وزرائه ورؤساء حكومته وعل بريطانيا ومصر. وحتى على زعماء فلسطين في ارضه، لو كان الملك كل ذلك أو حتى بعض ذلك، لكان الحال اليوم، غير هذه الحال! توقف موشيه ساسون قليلا ، ثم قال: «..عموما، بعد ان قام انور السادات رئيس مصر بفتح الطريق للسلام، وبعد اتفاق اوسلو مع الفلسطينيين، سمحت الظروف للمملكة الاردنية الصغيرة بالعمل جهاراً وبشجاعة للتوقيع على اتفاق سلام كامل في 1994».

قلت مقاطعاً: أنا على علم تام بكل هذه التفاصيل وقد عشت بعضها في عمان وفي القدس بكل آلامها وهمومها، وعندما مضت السنون ومات من مات وجاء من جاء، قال الملك حسين كلمته امام الاجتماع المشترك لمجلس الشيوخ والنواب في الكونغرس الامريكي في 26/7/1994 «اما جدي الملك عبد اللّه بن الحسين فقد كان رجلاً مؤمناً بالسلام الذي دفع حياته ثمناً له، ولقد نذرت حياتي لتحقيق حلمه...»! انتهى كلام الحسين. وانتهىت من مقاطعة ساسون، فبدأ يتحدث عن محاولات السلام مع مصر.