نصف يتم وثقافة فائضة

TT

كثيرون من النقاد لا يؤلفون. يمضون العمر في مطالعة عطاءات سواهم وليس مضارعتها. يحبهم البعض ولا يحبهم البعض ويخشاهم الكتّاب والشعراء، ويخشون أمزجتهم، يخشون قصور بعضهم، ويخشون «أذواق» بعضهم، والجميع يخشى حقد البعض الأخير، الذي يتوسل النقد عنوانا لأفكار صغيرة وحسد مقيم. بين النقاد العرب كنت أقدر كثيرا جهاد فاضل في «الحوادث»، إلى أن وضع كتابا عن نزار قباني، «يوضح» فيه، أن اسم العائلة الحقيقي «أف بيق» وليس قباني، وأن والده كان عطارا. كأن تقول، يجب إعادة النظر في شكسبير لأن اسم عائلته الحقيقي جونسون. عندما يقحم الناقد علاقته الشخصية بعمله، يفقد الشرط الأول للنقد: السعة. مضى وقت طويل قبل أن أعود إلى قراءة جهاد فاضل، بتقدير شديد، لكفاءته وتكرسه. ومنذ أن تعرفت إلى عمل سوسن الأبطح في «الشرق الأوسط» وأنا معجب. وبإعجاب أيضا أدمنت متابعة عباس بيضون في «السفير». ورلي راشد في «النهار»، وهو على ما قيل اسم مستعار. وأقرأ عبده وازن في «الحياة» بصفة طالب معرفة. وعلى الرغم من معرفتي منذ سنوات، أن له نصوصا شعرية وأخرى في النثر، فلم أحاول قراءتها، مكتفيا بكتاباته النقدية.

كنت مخطئا. في سيرته الذاتية «قلب مفتوح» يبدو عبده وازن ناثرا لا تغيب عن كلماته لغة الشعر. هنا نجد السيرة الذاتية في مرتبة عالية من التواضع، ومرتبة عالية من الجمال. وتنعكس الكثافة الثقافية في وضوح على الوقوف أمام مرآة النفس وشريط الطفولة. لا بطولة في هذه السيرة. لا تفوق. لا عظات للآخرين. لا محاولات لتغيير تاريخ الأمة ومسار البشرية.

هنا، نص بأسلوب ألبير كامو في «الغريب» ولكن سرعان ما يخرج من «برانية» كامو ليعود إلى نفسه، إلى طفولة بسيطة في ضواحي بيروت، حيث يغيب الأب، ويصبح هو «أب نفسه» وولي أمر ذاته. والأم، فأما الأم، «فلم تكن صديقتنا. كانت فقط أما». ولن ينسى أن يشدد على الارتضاء، فهو نصف يتيم، في حين أن تلامذة الميتم المجاور، يتامى أبا وأما. ومع ذلك، فهم يمرحون في ملعب المدرسة، وربما في الليل يعانقون يتمهم كما هو. بكليته. أبا وأما. لم تكن أمه تعرف القراءة. لكنها بسعادة كانت ترافقه لشراء الكتب المدرسية وتترك له أن يختارها. ولقد «فتنت القراءة الفتى باكرا وهي فتنة لم تفارقه يوما». بدأ هاجس القراءة باكرا «وكنت أشعر أن علي أن أقرأ عنها وعني. وأذكر كم كانت تفرح عندما تراني أقرأ دون أن تعلم ماذا أقرأ». يقول عبده وازن: «أما القرآن فشرعت في قراءته لاحقا، وكنت كلما فتحته أتذكر الصفة التي نعمت بها اللغة العربية متفردة، الصفة القدسية، صفة اللغة المقدسة، لغة الله، أو اللغة التي تحدث بها الله. ولطالما ساءلت نفسي إذا كان ممكنا حقا الإبداع في لغة أبدع الله فيها».