احتواء طفيف

TT

لا تصدق كل ما تقرأه في الصحف. خذ على سبيل المثال هذا العنوان الذي أوردته صحيفة «هندوستان تايمز» قبل بضعة أسابيع، عندما كنت في نيودلهي: «كلينتون: الولايات المتحدة لا تسعى لاحتواء الصين». يشير العنوان إلى تصريح هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية خلال جولتها في آسيا. كلا، إن واشنطن لا تحاول احتواء الصين بالصورة نفسها التي استخدمناها في السابق مع الاتحاد السوفياتي، لكن الرئيس أوباما لم يقض ثلاثة أيام في الهند فقط لتحسين قدراته في اليوغا.

كان الهدف من زيارة أوباما أن يعلن للصين أن أميركا تعلم أن الهند تدرك أن «عدوانية» الصين الأخيرة، كما أخبرني وزير هندي، أثارت قلق جيرانها، فلا يجرؤ أي منهم على استخدام كلمة «احتواء» علنا. وحقيقة الأمر أن أيا منهم لا يرغب في الاقتراب من ذلك، أو ينوي تشجيع هذه السياسة، لكن هناك نفحة جديدة من القلق في الأجواء الآسيوية.

كل دول جوار الصين ترغب في أن تعرف بكين - كما تقول اللافتة - «إياك أن تظن أن بمقدورك الوقوف بسيارتك هنا»، إياك أن تعتقدي أن بمقدورك استخدام مواردك العسكرية والاقتصادية المتنامية في فرض مزاعمك في نزاعات الحدود في بحر الصين الجنوبي، لأنك إن فعلت ذلك سيكون مصير كل جيران الصين أن يكونوا أصدقاء أميركا الجدد؛ ومنهم الهند.

لعل ذلك كان السبب في لهفة كل جيران الصين إلى التقاط صورة لرئيسهم وهو واقف إلى جانب وزيرة الخارجية كلينتون أو الرئيس أوباما؛ مع تعليق ضمني يقول: «بأمانة، أيتها الصين، نحن لا نرغب في شد الخناق حولك، ولا نرغب في حرب باردة آسيوية، نحن فقط نرغب في التجارة والوفاق، لكن من فضلك لا تحاولي انتهاك القواعد ولا تعتقدي أن بمقدورك الوقوف بسيارتك في هذا المكان، لأنك إن فعلت ذلك، فلدي صديق في واشنطن وهو ضخم حقا.. ولديه شاحنته أيضا».

أنا أصف ذلك بالاحتواء الطفيف، الذي بدأ العام الماضي نتيجة التصاعد المفاجئ في تأكيدات الصين على مزاعمها في بحر الصين الجنوبي. وهو ما يشكل تناقضا صارخا للحالة المزاجية في المنطقة قبل عامين. وكما ذكر كريستيان كاريل الكاتب المشارك في مجلة «فورين بوليسي» في مقاله في 4 أغسطس (آب) أن الصين لقيت إشادات من قبل الخبراء الآسيويين على دهائها وذكائها وبراعتها في بناء العلاقات الثقافية والاقتصادية مع جميع جيرانها وتفوقت في المناورة على الأميركيين الأغبياء والسذج. لكن في غضون ستة أشهر فقط حاولت الصين لعب دور المستأسد على من حوله وشجعت جيرانها على التخلي عن العم سام.

وأشار كاريل إلى أن بكين صعدت من مزاعمها خلال الأشهر الأخيرة في بحر الصين الجنوبي إلى مستوى «المصالح القومية الرئيسية»، في ما يتعلق بالتيبت وتايوان، وهو ما أثار غضبا كبيرا بين الدول الأخرى في المنطقة، ومن بينها بروناي وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام، عندما زعمت ملكية مناطق في البحر.. ثم في حال إذا ما لم يكن الأميركيون الجنوب شرق آسيويون قد فهموا الرسالة بعد، قامت البحرية الصينية بمناورات واسعة في البحر، ونشرت سفنا من أساطيلها الثلاثة. وشاهد أدميرالات البحرية الصينية إطلاق السفن وابلا من الصواريخ على أعداء وهميين، التي عرضها جميعا التلفزيون الصيني بتفاصيل مشوقة.

حاولت الصين أيضا التنمر على فيتنام عبر وقف عمليات استكشاف النفط، فيما زعمت بكين أنها المياه الإقليمية الصينية، وأجبرت اليابان على إطلاق سراح قبطان قارب صيد صيني اعتقل بعد صدام مع قاربي حرس سواحل يابانيين بالقرب من الجزر المتنازع عليها في شرق بحر الصين. وتعاملت الصين مع اليابان عبر وقف صادرات العناصر النادرة التي تستخدم بصورة أساسية في الصناعات المتقدمة.

وكتب براهما تشيلاني، المحلل الدفاعي في «مركز دلهي لأبحاث السياسة»: «مع الاعتماد المتزايد للحزب الشيوعي الصيني على القوة العسكرية للحفاظ على احتكار القوة وضمان النظام الداخلي، يقوم كبار ضباط الجيش بالتأثير بشكل واضح في السياسة الخارجية».

لكن الهنود مثل رفاقهم الآسيويين، لا يرغبون حقا في المضي إلى ما هو أبعد من احتواء طفيف مع الصين؛ حتى الآن. فمن المؤكد أن الصين والهند على خلاف بشأن الحدود وباكستان. لكن الصين الآن أكبر شريك تجاري مع الهند.

لا تنس أيضا أن السياسة الخارجية الهندية لها تاريخ طويل من الحياد. يقول الخبير الاستراتيجي الهندي راجا موهان: «حتى عام مضى، كان أكبر النقاشات الهندية حول كيفية التعامل مع الهيمنة الأميركية. لا يزال بعض أفراد النخبة في الهند يخشون الإمبريالية والليبرالية الأميركية الجديدة».

وأخيرا، يقول المحلل الدفاعي الهندي كانتي باسو: «يستشعر الهنود المتابعون للمجتمع الاستراتيجي في قرارة أنفسهم أن الصينيين يرتفعون والأميركيون يتوارون، ولا يبدو أن الأميركيين سيتمكنون من حل مشكلاتهم قريبا. لذا، لا تراهنوا على أميركا».

كلا، لن ترتمي الهند في أحضان الولايات المتحدة، لكننا لن نطلب منها ذلك. فالديمقراطية والجغرافيا السياسية والجغرافيا والاقتصاد تمتزج جميعها لتقارب الولايات المتحدة والهند، وهو أمر مهم بالنسبة لكليهما. وإذا حاولت الصين التصرف بذكاء، فلن تتجاوز العلاقات الهندية - الصينية الاحتواء الطفيف. لكن إذا لم تحسن الصين التصرف، فيمكن أن تكون زيارة أوباما للهند في يوم من الأيام زيارة نيكسون الجديدة للصين؛ «فعدو عدوي هو أفضل أصدقائي الجدد».

* خدمة «نيويورك تايمز»