جماهيرية الأحزاب السياسية في المغرب

TT

جماهيرية الأحزاب السياسية في المغرب ضعيفة. نصدر هذا الحكم بدلالة جملة مؤشرات تشهد كلها بذلك.

المؤشر الأول، وهو أكثرها بلاغة في تصوير حال الضعف تلك، هو ما تفيده آخر انتخابات تشريعية في المغرب (قبل ثلاث سنوات)، ذلك أن الحصيلة النهائية للاستحقاقات التشريعية الكبرى هي أشبه ما تكون بالإحصاءات العامة للسكان من حيث أن نتائجها تظل قابلة للتوظيف ما لم تأت معطيات جديدة لتؤكدها أو لتنفيها. ودرس الانتخابات المشار إليها يفيد أن الحزب السياسي الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية لا يتوافر، في واقع الأمر، سوى على مليون صوت أو ما يقرب ذلك من أساس قاعدة انتخابية تفوق 14 مليون ناخب مقترع بالفعل (أما المسجلون في القوائم الانتخابية فهم أكثر من ذلك). وبعبارة أوضح فعدد الأصوات المحصل عليها جملة = الأصوات التي أوصلت الفائزين مضافا إليها الأصوات الأخرى التي كانت لمرشحي الحزب دون أن يتمكن أصحابها من الفوز لوجود مرشحين آخرين كسبوا أصواتا أكثر من ذلك. قد يلزم أن نضيف تنبيها آخر فنقول: إن التصويت لصالح مرشح حزب من الأحزاب لا يعني، بالضرورة، أن الناخب ينتمي إلى ذلك الحزب. ذلك أن هنالك، من جهة أولى، التعاطف أو الميل المؤقت بفعل ضغوط معنوية متنوعة الأشكال. وهنالك، من جهة ثانية، دخول دوافع لا تمت بصلة إلى القناعات الحقيقية للناخب (متى كانت تلك القناعات واضحة). إذ إن عوامل عديدة، متداخلة وأحيانا متناقضة، تتدخل في التصويت (الجهوية، الولاء، الانتخاب العقابي - كأن يصوت ذو الميول اليسارية لصالح مرشح من اليمين تعبيرا عن السخط -..).

المؤشر الثاني هو ضعف الأداء داخل المؤسسة البرلمانية ذاتها. ذلك أن أحد المظاهر السلبية المثيرة للغضب في البرلمان المغربي هو ارتفاع نسب الغياب عن حضور الجلسات، بما في ذلك الجلسات التي تخصص للمصادقة على القوانين الكبرى، بل إن الجلسة السنوية الحاسمة، أي تلك التي تخصص للميزانية (الموازنة) السنوية التي تلزم الدولة سنة كاملة تعرف بدورها غيابا مثيرا للأسى. لا غرو أن الممارسة الديمقراطية السليمة تفقد معناها بالجملة متى كانت نسب الغياب المتكرر عن جلسات البرلمان تقارب ثلثي أعضاء المجلس. معنى ذلك أن المصادقة على النصوص التشريعية التي تلزم الأمة تكون من قبل حضور لا يتجاوز بضع عشرات والحال أن أعضاء مجلس النواب يفوقون 300 نائب.

المؤشر الثالث، وهو بدوره من المظاهر السلبية المثيرة للأسف، وجود ما يعرف في الأدبيات السياسية بظاهرة «الترحال السياسي» (على غرار ترحال البدو في القفار). ذلك أن في الإمكان تسجيل انتقال نائب برلماني يصل إلى البرلمان تحت لافتة حزب إلى حزب آخر. لا بل إن الانتقال يكون، في بعض الأحيان انتقالا مذهلا من اليمين إلى اليسار أو العكس هذا مع العلم أن القانون يمنع ذلك.

المؤشر الرابع يفيض بالدلالات وإن لم يكن في مستوى المؤشرات السابقة، ونقصد به مبيعات الجرائد التابعة للأحزاب. أنت لو نظرت في ترتيب الصحف في المغرب، من حيث أرقام المبيعات، فستلاحظ أن جرائد الأحزاب الوطنية تقبع في مؤخرة الرتيب بأعداد هزيلة.

علام يدل هذا الواقع؟ هل يفيد تدنيا في مستوى الوعي السياسي في المغرب؟ هل يعني إدارة الظهر، كلية، للشأن العام؟

لا شيء من ذلك في الحقيقة، لا بل إن الملاحظة الدقيقة للحياة العامة يفيد عكس ذلك - ولدي على هذا الادعاء أدلة قطعية.

الدليل الأول نستمده من التعامل مع القضايا الكبرى التي تتصل بالحياة العامة وأسوق على ذلك مثالين اثنين. عندما تعلق الأمر بالمراجعة الشاملة لمدونة الأسرة، ومن ثم بوضعية المرأة في التشريع المغربي، عرف الشارع المغربي مظاهرتين حاشدتين إحداهما تناصر مشروع القانون والأخرى تعترض عليه بكل أشكال المعارضة - واستوجب الأمر تدخلا ملكيا كان بموجبه إعادة النظر في مقترحات اللجنة، التي صاغت القانون، وفي تركيب اللجنة أيضا. والدليل الثاني يتعلق بالقضايا التي تتصل بالوعي الإسلامي من جانب أول والوعي العروبي من جانب ثان. ذلك أن الشارع المغربي يشهد هيجانا شديدا كلما تعلق الأمر بما يمس الوعيين بسوء. يلاحظ ذلك في كل ضربات الإساءة التي تلحق بالأشقاء الفلسطينيين، كما كان الأمر عند الاجتياح الأميركي للعراق. وإذن فالوعي السياسي في المغرب أبعد ما يكون عن الضعف والقصور. لا مفر من القول إذن إن العيب يكمن، بالأحرى، في الحزب وفي قدرته على تأطير المواطن المغربي.

يلزم البحث إذن عن مواطن القصور الأخرى في الأداء الحزبي في المغرب إضافة إلى الأسباب البادية للعيان (غياب الديمقراطية الداخلية، الارتباك والتشابه في البرامج السياسية، عدم الوفاء بالالتزامات تجاه الناخبين..). ومواطن الخلل في تقديرنا ترجع، أولا وأساسا للشؤون التي تتصل بالحياة الداخلية ولأخرى تتصل بالحياة العامة، وعند هذه الأخيرة نرى الوقوف عند بعض مظاهرها.

يبدي الكثير من الأحزاب استياء كبيرا تجاه ظاهرة «الترحال السياسي» غير أنها لا تقوم بخطوات إيجابية في هذا الصدد. نقول في عبارة واضحة إن الأحزاب التي تنتقد هي ذاتها تلك التي ترحب باستقبال «وافدين جدد»، وهي نفسها تلك التي تتغاضي عما كانت بالأمس القريب تستنكره من سلك ومواقف. هل يكون التفريط في المصداقية في العمل السياسي بحاجة إلى أكثر من ذلك؟

الغالب على انشغالات الأحزاب السياسية في المغرب هو القضايا التنظيمية الصورية، أي تلك التي تتصل بعقد المؤتمرات الإقليمية المحلية والجهوية تحضيرا للمؤتمر الوطني العام احتراما لليومية المعلن عنها، وذلك حتى يكون الحزب في توافق مع القانون المنظم للأحزاب في المغرب. إن المفروض في الحزب أن يكون مدرسة مفتوحة في التكوين والتثقيف السياسيين، وليس مجرد مجموعة من الآليات الضخمة والفارغة معا، وإذ يغدو مبلغ نشاط الحزب محض احترام يومية الجموع والمجالس والبحث عن «النخب» القادرة، بوسائلها الخاصة في الواقع، على ولوج مجلس النواب أو مجلس المستشارين فإن الوظيفة الحزبية تفقد أبهى ما فيها، أي التكوين والإعداد السياسيين على مذهب واضح وفق ممارسات ديمقراطية سليمة.

المغرب يصارع جملة من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية من أهمها تلك التي تتصل بالمنظومة التعليمية الصائبة والقادرة على إعداد المواطن المغربي الصالح من جانب أول والقادرة، من جانب ثان، على تحقيق المواءمة بين التكوين الضروري ومتطلبات سوق الشغل. ومن أهمها كذلك تلك التي تتصل بوجوب إحداث إصلاح شامل وعميق في نظم العدالة والإدارة. ما يسع الملاحظ للشأن المغربي أن يسجله هو أنه لا شيء من ذلك يشكل الاهتمام الأول للحزب السياسي عموما، إلا أن يكون الأمر بيانات وخطبا تفيض بالانتقادات، متى تعلق الأمر بأحزاب المعارضة، وتنقصها عبارات التنويه والإشادة عند الأحزاب الأخرى.

كيف تتطور النظرية السياسية وتتبلور إن لم يكن ذلك في عمل الانكباب على الهموم الفعلية للوطن والمواطنين؟ ما السبيل إلى التوجه نحو تكوين أقطاب كبرى تمكن من ممارسة سياسية سليمة، وهذا هو جوهر المشكل في الوجود الحزبي في المغرب، إن لم يكن ذلك ببلورة رؤى واضحة في أمور الاقتصاد والسياسة والاجتماع؟