موقف العسكريين المسلمين في الجيش الأميركي

TT

ما موقف العسكريين المسلمين العاملين في الجيش الاميركي، من المشاركة في العمليات التي قد تحدث في افغانستان، حيث يكون الطرف الآخر المطلوب قتاله مسلماً؟ هذا ليس سؤالا افتراضياً، ولكنه قضية شاغلة لاولئك الضباط والجنود، الذين يقدر عددهم الآن في أفرع القوات المسلحة الاميركية المختلفة بحوالي 15 ألفا. فقد بعث اقدم مرشديهم أو ائمتهم محمد عبد الرشيد برسالة كانت موضع تداول بين بعض علماء المسلمين خلال الاسبوع الماضي، استفسر فيها عن الموقف الشرعي في هذه الحالة. وقال في رسالته ان العمليات العسكرية المرتقبة لها أهداف ثلاثة هي:

* الانتقام من الذين «يُظَنُّ انهم شاركوا» في تدبير العمليات الانتحارية وتمويلها، التي نفذت في الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) الماضي ضد اهداف مدنية وعسكرية في كل من نيويورك وواشنطن.

* القضاء على العناصر التي لجأت الى الأراضي الافغانية وغيرها، وتخويف سائر الحكومات التي تتساهل في إيواء أمثال هؤلاء، وتمكينهم، أو تعطيهم فرص التمكن، من التدريب على فنون القتال، والانطلاق نحو أهدافهم في العالم.

* إعادة الهيبة والاحترام للولايات المتحدة باعتبارها قطباً عالمياً منفرداً.

وأضاف ان العسكريين المسلمين اذا رفضوا المشاركة في العمليات العسكرية، فلن يكون أمامهم من خيار سوى الاستقالة، وفيها ما فيها في الظروف الراهنة، على المستويين العام والشخصي، ثم سأل: هل يجوز لمن يستطيع منهم أن يطلب تحويله الى الخدمات الأخرى غير القتال المباشر؟

هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها المسلمون الاميركيون موقفاً من هذا القبيل، ذلك ان المشتغلين بالتعايش والفتوى في الغرب كانوا ولا يزالون مشغولين بالمعالجة الفقهية للكثير من أوجه الحياة المدنية العادية التي تصادف المسلم، الذي اصبح مواطناً في مجتمع، أغلبيته غير مسلمة، ومن ثم فان القانون فيه، فضلا عن عادات الناس وتقاليدهم، لا علاقة لها بالاسلام، ولا محل لالزامهم بتعاليمه، ولم يخطر على بال هؤلاء ان المسلمين من مواطني تلك الدول، قد يوضعون يوماً ما في موقف يضطرهم الى قتال اخوانهم المسلمين في أقطار أخرى، لذلك فانهم لم يبحثوا الموضوع، ولم يتطرقوا الى مناقشته من أي باب.

احتفظ بنص حوار أجرته مجلة «المجلة» قبل سبع سنوات (العدد 728 الصادر في 23 يناير (كانون الثاني) عام 1994 مع محمد عبد الرشيد، بعد تنصيبه أول مرشد للمسلمين في مقر وزارة الدفاع (البنتاغون)، وكان آنذاك ضابطاً برتبة نقيب، وفي هذا الحوار سئل:

* كيف ترى تدخلات القوات الاميركية في دول اسلامية؟

ـ كان رده: نحن عسكريون لا سياسيون، وإطاعة الأوامر جزء أساسي من العمل العسكري، لكني آمل أن تكون العلاقات الاميركية مع الدول الاسلامية وغيرها طيبة دائماً، واذا اضطررنا الى التدخل، يكون تدخلنا ايجابياً، انني أدعو الله كل يوم ألا نضطر لمقاتلة اخواننا المسلمين، رغم ان المسلمين يقتلون بعضهم البعض في حروبهم الأهلية هنا وهناك، وهذا شيء مؤسف.

لم تبرز المشكلة في حرب الخليج الثانية، حين ذهبت القوات الاميركية ضمن التحالف الذي اقيم آنذاك للاسهام في تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، سواء لان عدد المسلمين بالجيش الاميركي كان قليلا نسبيا (يقال ان خمسة آلاف جندي اميركي دخلوا الى الاسلام لاحقاً، أثناء وجودهم بالخليج)، أو لأن الهدف كان القتال الى جانب بلد مسلم. لتخليصه من عدوان جار آخر مسلم، لكن الصورة أكثر مباشرة وحِدَّةً هذه المرة، الأمر الذي بدا مؤرقاً لتلك الشريحة من العسكريين، الذين تنامى عددهم بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وأصبحت لهم جمعية تدافع عن حقوقهم، في قاعدة فورت براغ، بولاية نورث كارولاينا (العسكريون اليهود لهم تاريخ داخل الجيش الاميركي وعددهم 30 ألفاً ولهم 150 مرشداً دينياً).

ورغم بروز المشكلة هذه المرة إلا ان حلها على المستوى القانوني كان قائماً، لان المحاكم الاميركية منذ تجربة حرب فيتنام التي تخللتها حالات امتناع عن القتال من جانب البعض، اقرت مبدأ عرف باسم «معارضة الضمير» CONSCIENTIOUS OBJECTOR وبمقتضاه أعطي الشخص حق الاعفاء من المشاركة في العمليات القتالية اذا توفرت لديه أسباب دينية أو اعتقادية تتعارض مع التزامات تلك المشاركة، وفي هذه الحالة يمكن تكليفه بأعمال أخرى مدنية على جبهة القتال، مثل الخدمات الطبية.

حين ارسل مجلس الافتاء لاوروبا الشمالية رسالة كبير المرشدين المسلمين بالجيش الاميركي الى ثلاثة من العلماء هم: الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، والمستشار طارق البشري والدكتور محمد سليم العوا، كانت اجابة السؤال التي تم الاتفاق عليها وحملت توقيع شخصين اضافيين هما الدكتور هيثم الخياط وكاتب هذه السطور (رغم تواضع اسهامي فيها) على النحو التالي:

السؤال يعرض قضية شديدة التعقيد وموقفاً بالغ الحساسية يواجهه اخواننا العسكريون المسلمون في الجيش الاميركي، وفي غيره من الجيوش التي قد يوضعون فيها، في ظروف مشابهة.

والواجب على المسلمين كافة ان يكونوا يداً واحدة ضد الذين يروعون الآمنين ويستحلون دماء غير المقاتلين بغير سبب شرعي، لان الاسلام حرم الدماء والأموال حرمة قطعية الثبوت الى يوم القيامة، إذ قال تعالى: «من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفسا، بغير نفس أو فساد في الارض، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ثم ان كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون» (المائدة 32)، فمن خالف النصوص الاسلامية الدالة على ذلك فهو عاص مستحق للعقوبة المناسبة لنوع معصيته وقدر ما يترتب عليها من فساد أو إفساد.

ويجب على اخواننا العسكريين المسلمين في الجيش الاميركي ان يجعلوا موقفهم هذا ـ وأساسه الديني ـ معروفيْن لجميع زملائهم ورؤسائهم وأن يجهروا به ولا يكتموه لأن في ذلك إبلاغاً لجزء مهم من حقيقة التعاليم الاسلامية، طالما شوهت وسائل الاعلام صورته أو أظهرته على غير حقيقته.

ولو ان الاحداث الإرهابية التي وقعت في الولايات المتحدة عُوملت بمقتضى نصوص الشريعة وقواعد الفقه الاسلامي لكان الذي ينطبق عليها هو حكم جريمة الحرابة الوارد في سورة «المائدة» (الآيتان 33 و34).

لذلك، فاننا نرى ضرورة البحث عن الفاعلين الحقيقيين لهذه الجرائم، وعن المشاركين فيها بالتحريض والتمويل والمساعدة، وتقديمهم لمحاكمة منصفة تنزل بهم العقاب المناسب الرادع لهم ولأمثالهم من المستهينين بحياة الابرياء وأموالهم والمروعين لأمنهم.

وهذا كله من واجب المسلمين المشاركة فيه بكل سبل ممكنة، تحقيقاً لقوله تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» (المائدة 5).

ولكن الحرج الذي يصيب العسكريين المسلمين في مقاتلة المسلمين الآخرين، مصدره ان القتال يصعب ـ أو يستحيل ـ التمييز فيه بين الجناة الحقيقيين المستهدفين به، وبين الأبرياء الذين لا ذنب لهم في ما حدث، وان الحديث النبوي الصحيح يقول: «اذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، قيل هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: قد أراد قتل صاحبه» (رواه البخاري ومسلم).

والواقع ان الحديث الشريف المذكور يتناول الحالة التي يملك فيها المسلم أمر نفسه فيستطيع ان ينهض للقتال ويستطيع أن يمتنع عنه، وهو لا يتناول الحالة التي يكون المسلم فيها مواطناً وجندياً في جيش نظامي لدولة، يلتزم بطاعة الأوامر الصادرة إليه، وإلا كان ولاؤه لدولته محل شك مع ما يترتب على ذلك من أضرار عديدة.

يتبين من ذلك ان الحرج الذي يسببه نص هذا الحديث الصحيح إما انه مرفوع، وإما انه مغتفر بجانب الأضرار العامة التي تلحق مجموع المسلمين في الجيش الاميركي، بل وفي الولايات المتحدة بوجه عام، اذا اصبحوا مشكوكاً في ولائهم لبلدهم الذي يحملون جنسيته، ويتمتعون فيه بحقوق المواطنة، وعليهم ان يؤدوا واجباته.

وأما الحرج الذي يسببه، كون القتال لا تمييز فيه فان المسلم يجب عليه أن ينوي بمساهمته في هذا القتال أن يحق الحق ويبطل الباطل، وان عمله يستهدف منع العدوان على الأبرياء أو الوصول الى مرتكبيه لتقديمهم للعدالة، وليس له شأن بما سوى ذلك من أغراض للقتال قد تنشئ لديه حرجاً شخصياً، لأنه لا يستطيع وحده منعها ولا تحقيقها، والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، والمقرر عند الفقهاء ان ما لا يستطيعه المسلم وغير ساقط عنه لا يكلف به، وإنما المسلم هنا جزء من كل لو خرج عليه لترتب على خروجه ضرر، له ولجماعة المسلمين في بلده، أكبر كثيراً من الضرر الذي يترتب على مشاركته في القتال.

والقواعد الشرعية المرعية تقرر أنه «اذا اجتمع ضرران ارتكب أخفهما»، فاذا كان يترتب على امتناع المسلمين عن القتال في صفوف جيوشهم ضرر على جميع المسلمين في بلادهم ـ وهم ملايين عديدة ـ وكان قتالهم سوف يسبب لهم حرجاً أو أذى روحياً ونفسياً فان «الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام» كما تقرر القاعدة الفقهية الأخرى.

واذا كان العسكريون المسلمون في الجيش الاميركي يستطيعون طلب الخدمة ـ مؤقتاً أثناء هذه المعارك الوشيكة ـ في الصفوف الخلفية للعمل في خدمات الاعاشة وما شابهها ـ كما ورد في السؤال ـ من دون ان يسبب لهم ذلك، ولا لغيرهم من المسلمين الاميركيين، حرجاً ولا ضرراً فانه لا بأس عليهم من هذا الطلب. أما اذا كان هذا الطلب يسبب ضرراً أو حرجاً يتمثل في الشك في ولائهم، أو تعريضهم لسوء ظن، أو لاتهام باطل، أو لايذائهم في مستقبلهم الوظيفي، او للتشكيك في وطنيتهم، وأشباه ذلك، فانه لا يجوز عندئذ هذا الطلب.

والخلاصة انه لا بأس ـ ان شاء الله ـ على العسكريين المسلمين من المشاركة في القتال في المعارك المتوقعة ضد من «يُظَنُّ» انهم يمارسون الإرهاب أو يؤوون الممارسين له ويتيحون لهم فرص التدريب والانطلاق من بلادهم، مع استصحاب النية الصحيحة على النحو الذي أوضحناه، دفعاً لأي شبهة قد تلحق بهم في ولائهم لأوطانهم، ومنعاً للضرر الغالب على الظن وقوعه، وإعمالا للقواعد الشرعية التي تنص على ان الضرورات تبيح المحظورات، وتوجب تحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد، والله تعالى أعلم وأحكم.