رأيت فيما يرى النائم

TT

رأيت فيما يرى النائم، وأنا أرى بقدر من الوضوح عندما أكون بين اليقظة والنوم، وأرى بغاية الوضوح عندما أكون نائما، رأيت.. خير اللهم اجعله خيرا، رأيت أنني أجلس في كافيتريا فندق شهير على النيل، الفندق قريب من ميدان التحرير، لا توجد مظاهرات الآن فلم يكن اليوم يوم جمعة أو مليونيات، ومع ذلك كانت الأصوات والهتافات التي لا وجود لها تصل إلى أسماعي قادمة من الميدان، بالتأكيد هي من صنع خيالي المجهد، هناك ضابط جيش برتبة رفيعة يجلس بجوار النافذة الزجاجية العريضة، كان يحتسي القهوة ويدخن بينما هو غارق في التحديق في مياه النيل. ليس من المعتاد أن نرى ضابطا نهارا في كافيتريا، ربما هو في مهمة ما. بدأت أتسلى بالتفكير في طبيعة هذه المهمة، هو ليس وحده بالطبع، هناك عدد من المساعدين المتخفين، هذا الجارسون يتحرك برشاقة، نظراته واثقة نفاذة، بالتأكيد هو أحد الضباط، وهؤلاء السفرجية، يتحركون بعشوائية في المكان، بالتأكيد هم أمناء شرطة وصف ضباط، ترى من هو الشخص الذي سينقضون عليه حالا. بالقرب منه وعلى بعد مائدتين كان يجلس الشيخ فلان، استولت علي الدهشة فقد تصورت أنه لا يظهر إلا في الفضائيات فقط، وأنه لا وجود فعليا له في الواقع، هل سيكون هو الهدف من العملية؟

قام الشيخ فلان من مكانه وتوجه إلى الضابط، أحسست أن شيئا مثيرا على وشك أن يحدث، كنت قريبا منهما إلى الدرجة التي أسمع فيها بوضح ما يدور بينهما، قال فلان: لماذا تريدون الاستمرار في حكمنا؟ لماذا الإصرار على إدامة قوانين الطوارئ الاستثنائية، لماذا لا تعودون إلى ثكناتكم؟

قال الضابط بهدوء: اتفضل اقعد..

قال الشيخ بصوت مرتفع وكأنه يريد لكل زبائن الكافيتريا أن يسمعوه: لأ.. لن أجلس معك.. لا أريد أن تنشر الجرائد في الغد صباحا صورة لي وأنا أجلس معك لتوحي للناس بوجود تحالف بيننا.

نظرت حولي، فوجئت بكل زبائن الكافيتريا وقد صوب كل منهم تليفونه الجوال في اتجاههما، التكنولوجيا المعاصرة حولت الناس جميعا إلى مصوراتية، وحولت الدنيا إلى استوديو تسجيل، بالتأكيد هم يسجلون أيضا الحوار بين الشيخ والضابط، قال الضابط: يا عزيزي.. لسنا أغبياء إلى الدرجة التي نفكر فيها في البقاء في السلطة وحكمكم، ليس هذا هو عصر الحكومات العسكرية، نحن نعمل على الوصول بكم إلى شاطئ الأمان، برلمان منتخب، حكومة منتخبة، رئيس منتخب، دستور يضمن السلام للجميع، بعدها نعود فورا إلى مواقعنا وثكناتنا.

وهنا قال فلان: بالتأكيد أنت تراني غبيا..

الضابط: والله لست أراك كذلك.. ولكن لا بأس من أن ترى نفسك كذلك، من المؤكد أن الإنسان يعرف عن نفسه أكثر مما يعرفه الآخرون.

فلان: آه.. أنت تشتمني الآن، ولكني سأتجاوز عن ذلك لكي أحرمك من الخروج عن الموضوع وهو أنك تريد أن تحكمني إلى الأبد ضاربا بذلك الديمقراطية في مقتل.. متجاهلا رغبات الشعب المصري، متناسيا الدماء التي سالت على أرض مصر لبشر يريدون العدل والحرية.. هل تعتقد أنني عاجز عن معرفة ما تفكر فيه، الأمر واضح أمامي تماما.. الطريقة التي تحدق بها في مياه النيل، الطريقة التي تحتسي بها القهوة، الطريقة التي تسحب بها أنفاس الدخان من سيجارتك، طريقتك في الجلوس، نبرات صوتك، كلها تدل على أنك تنوي البقاء في الحكم إلى الأبد، وأنا هنا لأقول لك بالنيابة عن الشعب المصري إننا لن نسمح لكم بذلك.

كنت أفكر في كلمات الرجل باحثا عما يريده بالفعل، في أحيان كثيرة يلجأ البشر لإعلان عكس ما يفكرون فيه ويرغبونه بالفعل، هذا الرجل يريد للحكم العسكري أن يستمر للأبد أو لأطول مدة ممكنة، هو يبذل مجهودا كبيرا لاستفزاز الضابط لكي يفقده أعصابه فيصيح فيه.. كده.. طيب.. مش حانسيب الحكم.. إيه رأيك؟ عندها يصيح في رواد الكافيتريا.. شفتم.. سمعتوا.. عشان تصدقوني.. مش حايسيبوا السلطة..

يبدو أن ذلك كان نفس ما يفكر فيه الضابط، غير أنه كان حريصا على أن يظل هادئا، قال بصوت خافت وهدوء: أنت تفسد علي جلستي.. هل تتفضل وتتركني..

صاح فلان: انت فاكرني عسكري عندك وبتعمل لي انصراف؟ هل تتصور أنك تجلس في قشلاق.. هل تتصور أن الشعب المصري عساكر عندكم في أرض الطابور؟ كلامي لا يعجبك لأنني كشفت لك حقيقة ما تفكرون فيه، وهو أن تحكمونا..

في تلك اللحظة، اقتحم أحد الأشخاص الكافيتريا وهو يصيح مستنجدا بمن هم في الأرض والسماء، ظهرت خلفه على الفور مجموعة من البشر تحاول الإمساك به، رواد الكافيتريا اقتربوا بالتليفونات الجوالة التي تحولت إلى كاميرات وأجهزة تسجيل، احتمى الرجل بالضابط الذي صاح: ابعد انت وهو.. في إيه.. إيه اللي حصل..؟

قال الرجل المطارد بصوت متقطع وأنفاس لاهثة: أنا رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للثقافة والحضارة المعاصرة، مكتبي في المبنى المجاور للفندق، وهؤلاء جميعا موظفون عندي.. اقتحموا مكتبي.. عاوزين زيادة في الحوافز والمكافآت.. عاوزين يضربوني.. فأنا نطيت من الشباك.. فجاءوا ورائي.. أنا في عرضك يا سعادة البيه..إحميني..

ظهر ضابط شرطة، بدا الارتياح على وجه ضابط الجيش، إنها مسؤولية الشرطة، صاح فيهم ضابط الشرطة: ابعد انت وهو.. إيه الحكاية.. هل أنتم سوّاح؟

أجابوا: لأ..

فسأل الشخص الذي يطاردونه: هل أنت سائح؟

أجاب: لأ.. أنا مصري..أنا رئيس مجلس إدارة...

لم يتركه الضابط يكمل جملته وقال بارتياح وهو يستدير منصرفا: أنا شرطة سياحة.. أنا مسؤول فقط عن السياحة والسياح.. اتفضل حضرتك روح اعمل محضر في قسم قصر النيل..

صاح الرجل في تعاسة: أنا لو خرجت من هنا حايقطعوني حتت.. اعتبرني سايح سياحة داخلية.. مش فيه سياحة داخلية للمصريين؟.. أنا جاي من طنطا عشان أزور المواقع الأثرية في القاهرة.. والا انت مسؤول عن السياح اللي جايين من أوروبا وأميركا بس؟

لم يبد ضابط الشرطة استجابة لتوسلات الرجل وقال ببرود: لأ.. أنا مسؤول عن كل السياح اللي جايين من كل أنحاء العالم.. مش من طنطا..

تلفت الرجل حوله في يأس وفجأة وبسرعة خاطفة فتح زجاج النافذة المطلة على النيل وقفز منها إلى الشارع، قفز خلفه الموظفون كما قفز بعض الزبائن ليكملوا تصوير وتسجيل المشهد، بقية الزبائن وأنا معهم وقفنا قريبين من النوافذ العريضة، قبل أن يلحق المطاردون برئيس مجلس الإدارة، ألقى بنفسه في النيل.. قفز خلفه عدة أشخاص لحقوا به في ثوان، أمسكوا به، لحسن حظه ظهر في نفس اللحظة «لنش» تابع لشرطة المسطحات المائية، صاح: إلحقوني.. إنقذوني..

فرد عليه ضابط اللنش: إحنا مهمتنا إنقاذ اللي بيغرقوا بس.. حضرتك بتعرف تعوم كويس.. إحنا مراقبينك من الأول.. ده انت بتعوم كويس قوي.

وانصرف لنش المسطحات المائية بينما كانت صرخات الرجل تشق عنان السماء.