في الحمق حلقوم لذيذ

TT

الحمقى والمغفلون من شخصيات الفكاهة العربية الأصيلة. تردد الكثير من حكاياتها على ألسن العامة ومؤلفات الخاصة. كان منها ما كتبه عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه «أخبار الحمقى والمغفلين». يتساءل المرء لماذا أعجبنا بها؟ ألكثرة ما نقع فيه من حماقات، أم احتراما للكثير من حكامنا الحمقى وما نختاره من حمقى لتولي شؤوننا؟ وماذا عن المغفلين أيضا؟ ما سر تعلقنا بهم؟ ألأننا نعيش في غفلة من مسيرة البشرية، أم لأن الدهر قد غفل عنا وولدنا في غفلة من عينيه؟

لا أدري. ولكن الحماقة ليست حكرا علينا. فشخصية الأحمق والمغفل موجودة في آداب وفولكلور معظم الشعوب الأخرى. ولها تاريخ قديم يمتد إلى أيام الفراعنة، عندما كان الملك يضم في بلاطه من يسمى بمضحك الملك. يلبس ملابس فنطازية غريبة، ويحمل آلة موسيقية، يعزف عليها ويغني ويطرب الملك ويؤنسه بنكاته وتقليعاته. وكان لها مثلها في أوروبا مما انعكس في أدب شكسبير، ولا سيما في مسرحية «هنري الخامس» وتراجيديا «الملك لير» وكوميديا «الليلة الثانية عشرة». يظهر فيها باسم الكلاون (clown)، الذي ترجمناه خطأ إلى العربية بكلمة المهرج. الأصح في رأيي أن يترجم بكلمة المضحك. وعلى غرار المضحك الفرعوني اعتاد الكلاون على لبس الملابس الفنطازية المبهرجة الألوان والغريبة التفصيل والمزينة بالشرائط والأجراس، تدق حيثما مشى أو رقص.

لم يعرف عن البلاط العباسي شيء مثل ذلك، ولكن كان للخليفة من نسميهم بالندامى. الشاعر النديم الذي يؤنس الخليفة بأشعاره الظريفة وتقليعاته. كان منهم أبو نواس وأبو دلامة وأبو العيناء.

وكما ذكرت، كانت لمعظم الشعوب شخصية الأحمق (Fool) في فولكلور الفكاهة. منها في إسبانيا شخصية دون ككشوت في تلك الرواية الشهيرة بهذا الاسم. وظهرت من ذلك عدة شخصيات في ألمانيا اشتهر منها بصورة خاصة تل يولنسبيغل في القرن الرابع عشر. خلده الألمان بتمثال في مولن ونصبوا على قبره شاهدا يقول: «لا تزل هذه الصخرة فتحتها يوجد تل يولنسبيغل». عرف عنه تجوله في البلاد وأينما حط أدهش الناس بحيله البارعة التي تستهدف فضح رذائل المجتمع من كذب ونفاق وطمع. وفي روسيا شاعت في القرن السادس عشر شخصية إيفان الأحمق «إيباك». اشتهر بسذاجته وحمقه وحسن نيته، ولكن كل حكاياته تنتهي بانتصار الخير على الشر والبساطة على الذكاء. استأنس الأوروبيون بحكايات هؤلاء الحمقى الأخيار فخصصوا يوما لتمجيدهم باسم عيد الحمقى (Feast of Fools). بيد أن هذا الوله بشخصية الأحمق انقرض بانتشار النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، وتعالي سلطان العلم والعقل والعقلانية فلم يبق للحماقة مكان. ومن الواضح أنها انتقلت لأولي الشأن من الحكام الذين احتكروا الحماقة لأنفسهم وأطلقوا عليها أسماء جديدة، النازية والفاشية والقومية والبلشفية، وهات ما عندك.

وفي تاريخنا العربي والشرق أوسطي ظهرت شخصية الأحمق المغفل في عدة أمثلة، منها جحا وهبنقة والملا نصر الدين، مما سأستعرضه في مقالاتي القادمة إن شاء الله.