فلسفة ما!

TT

لما تعمقت في دراسة الفلسفة الوجودية وجدتها تتحدث عن الإنسان نفسه فتصفه بأنه «مشروع»..

أي بأنه فكرة تنمو وتكبر يوما بعد يوم..

أي أن الإنسان حيوان ناقص.. وهذا الحيوان يحاول أن يكبر وأن يزداد حجما وسلطة وحرية يوما بعد يوم.. فأنت تساوي بالضبط ما تكتبه.. ما ترسمه.. ما تلحنه.. أو تغنيه.. أنت تساوي عملك.. ولما كنت أنت ناقصا فعملك كذلك.. وما دمت حيا.. فالكلمة الأخيرة لم تقلها بعد..

فكل شيء.. ليس بعد.. أي لم يكمل بعد.. الموتى هم الذين اكتملوا.. قالوا ما عندهم.. آخر ما عندهم.. ولذلك يمكن الحكم على الموتى.. يمكن نقدهم.. لأنهم قد فرغوا من الكلام!

ولكن الفيلسوف الوجودي سارتر.. وهو صاحب هذا الرأي.. قد أصدر أطول كتاب عن أديب لا يزال حيا.. فقد جاء كتابه عن الأديب الفرنسي جان جيبيه في ألف صفحة.. وقد رأى سارتر أن الأديب الفرنسي رغم أنه لا يزال حيا فقد فرغ تماما من كل ما لديه.. فليس عنده ما يضيفه.. كأنه مات!!

ثم أصدر أطول كتاب في تاريخ النقد الأدبي عن أديب مات هو فلوبير.. فقد جاء كتاب سارتر في ثلاثة أجزاء.. وهو في هذا الكتاب يتحدث بتفصيل وجمال وعمق عن الأديب الذي لا يحبه.. لأنه نموذج للأديب الذي لا يلتزم بقضايا عصره.. كذلك كان فلوبير.. ومن مزايا الفلسفة الوجودية أن الأديب ملتزم.. ولا بد أن يكون ملتزما.. وحريته لها قيد واحد هو: الالتزام بالعصر!!

وقد رأى سارتر في هذا الكتاب أن الأديب فلوبير قد مات مرتين: مرة يوم وضع في التراب.. ومرة قبل ذلك عندما قرر أن ينزوي وأن يعتزل عصره فحكم على نفسه بالموت.. ولذلك فمن المنطقي أن يكتب عنه.. لأنه مات مرة بعد مرة!

وفي نهاية كتابي «وداعا أيها الملل» جاءت بعض المقالات من الممكن أن تكون نظرة فلسفية إلى الحياة.. أي أن تكون «مذهبا فلسفيا».. وربما كانت كلمة «نظرة» هي أكثر تواضعا من كلمة «المذهب» لأن المذهب أعمق.. يحتاج إلى وقت أطول وإلى تأمل أكمل.. لكي أناقش هذه المعاني ومدى قدرتها على الشمول: أي على تفسير الكون والإنسان والحياة والحرية والجمال والخير والعدل والموت والحياة بعد الموت..

فبعد عشرين عاما من كتابة المقال الذي عنوانه «المسافات بيننا» والمقال الذي عنوانه «فلسفة ما» أحسست أخيرا أنني أستطيع أن أعود إليهما وأملأ ما بين الكلمات بالمعاني والأحداث التاريخية والأدبية والنفسية.