قصة ساركوزي ومكعب السكر!

TT

قبل شهرين، زعم الرئيس ساركوزي أن منافسه فرنسوا هولاند سوف يختفي في الانتخابات الرئاسية، مثلما يذوب مكعب سكر في كوب من الماء. وهذا جعلني أسترجع مقولة جورج بوش الأب الشهيرة لدى وصفه وعي بيل كلينتون السياسي: «الوعي السياسي لكلبي يفوق وعي كلينتون!». وعلى نحو يدعو للدهشة، فضل الأميركيون كلينتون على جورج بوش!

في هذه المرة، رأى كل منا أن ساركوزي ذاب مثل مكعب ثلج في بحر أصوات الناخبين.

على الجانب الآخر، كان فرنسوا هولاند يتحدث بتواضع جم عن نفسه. وصف نفسه بـ«الرجل العادي»، رجل يبث الطمأنينة في نفوس عامة الشعب الفرنسي. وأكد على وعده بأن يكون رئيسا «عاديا»، مقارنة بنمط نيكولا ساركوزي الرئاسي الذي أحيانا ما يبدو مثيرا للجدل. بعبارة أخرى، بعث برسالة واضحة مفادها أن ساركوزي رئيس غير عادي.

أتذكر أنه عندما كان ساركوزي يزور بريطانيا، ركزت وسائل الإعلام في معظمها على كارلا، وتعاملت مع زوجته كما لو كانت أكثر أهمية من الرئيس! لكن سرعان ما صارت الحياة الخاصة لساركوزي تتصدر عناوين الصحف. أصبح أول رئيس فرنسي يطلق زوجته خلال فترة حكمه.. تركته زوجته الثانية سيسيليا بعد جهود باءت بالفشل من أجل إبعادها عن حبيبها. وبعد شهر، التقى بالعارضة والمغنية كارلا بروني، التي وردت على لسانها المقولة الشهيرة «الزواج الأحادي يصيبني بالملل». وتزوجا خلال أشهر.

أصبح رئيسا يحل ضيفا على برامج تلفزيون الواقع، مجسدا مزيجا غريبا بين رجل عادي ونجم إعلامي، كانت حياته اليومية بمثابة عرض مسرحي دائم. يبدو أنه نسي أنه كان رئيسا لفرنسا، وخلفا لشخصيات على شاكلة الجنرال ديغول وفرنسوا ميتران.

لم يكن راضيا بأن يكون رئيسا للجمهورية. أراد أن يكون رئيسا ورئيس وزراء ووزيرا وصحافيا وصديقا لأصحاب النفوذ وصديقا لعامة الشعب الفرنسي في الوقت نفسه. أراد وادعى أن لديه رأيا في كل شيء ولم يشعر مطلقا بالمسؤولية عما وعد به. خلط بشكل نظامي بين التهور وسرعة الاستجابة وبين الحياة العامة والحياة الخاصة.

من ثم، لم يكن مفاجأة أن يأسر الرئيس فرنسوا هولاند، الرجل العادي صاحب الشخصية اللطيفة، قلوب الناخبين، لم يتحمل عدد هائل منهم مجرد مشاهدة ساركوزي على شاشات التلفزيون وفي «الإليزيه» ولو ليوم واحد إضافي.

عندما يقول هولاند: «لا أرغب في وجود أحياء خاصة بفئة بعينها في الجمهورية.. لا أرغب في أن تكون هناك أحياء خاصة بالفقراء، أو أحياء خاصة بالأثرياء!»، يعني هذا أنه قد استمع لصوت الشوارع. لقد استشعر بحق جوهر المجتمع.

عندما فاز فاتسلاف هافيل في الانتخابات وأضحى رئيسا لتشيكوسلوفاكيا، ابتعد عن أسلوب المغامراتية. إذا أردنا أن نكون دولة متقدمة، فلسنا بحاجة إلى أن نكون في الصفحات الأمامية وأن تتصدر أخبارنا عناوين وسائل الإعلام. فكر في سويسرا.. إنها تغيب عن العناوين الرئيسية، لكن شعب سويسرا محظوظ جدا، فمن يعلم باسم رئيسهم؟!

في الجولة الأولى من الانتخابات، فاز الاشتراكي فرنسوا هولاند بنسبة 28.6 في المائة من أصوات الناخبين، متقدما على نيكولا ساركوزي الذي حصل على نسبة 27.2 من أصوات الناخبين. وفي الجولة الثانية، فاز بنسبة 51.70 في المائة من الأصوات، بينما فاز ساركوزي بنسبة 48.30 في المائة من الأصوات. الأمر الأكثر أهمية أنه في باريس، حصل هولاند على نسبة 55.60 في المائة من الأصوات، بينما حصل ساركوزي على نسبة 44.40 في المائة من الأصوات.

وفي نتيجة شبه متوقعة على المستوى العام، تمكن المرشح الاشتراكي، فرنسوا هولاند من الإطاحة بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي.

هزم فرنسوا هولاند الاشتراكي نيكولا ساركوزي المحافظ يوم الأحد قبل الماضي ليصبح الرئيس الجديد لفرنسا، معلنا عن تغيير في طريقة تعامل أوروبا مع أزمة الدين وكيف يمكن أن تفرد فرنسا عضلاتها حول العالم على المستويين العسكري والدبلوماسي.

أدلى ساركوزي بملاحظته حول إعادة فرنسا إلى السيطرة العسكرية للمرة الأولى منذ عام 1966، من خلال التفاوض على وقف إطلاق النار في حرب اندلعت عام 2008 بين روسيا وجورجيا، وقيادة التدخل العسكري الغربي في ليبيا العام الماضي. كان مشاركا بشكل فعال في مجموعة العشرين ومجموعة الثماني إبان الأزمة الاقتصادية، مشكلا الثنائي «ميركوزي»، مع المستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل) لتجنب انهيار اليورو.

على الجانب الآخر، وصف هولاند نفسه بكابتن قارب في مهب عاصفة. جاءت فكرة التحرير في شعارات هولاند:

1) اليوم أتى من اليسار.

2) تقدم الميثاق الاجتماعي.

3) سبل الخروج من أزمة الحضارة.

أومن بأن هولاند أبلى بلاء حسنا في إدارة حملته الانتخابية، التي كانت تمتاز بالثراء في النظرية على وجه الخصوص.

التقى الفيلسوف المعروف إدغار مورين بفرنسوا هولاند يوم 10 مارس (آذار) في باريس في معقل الريف الاشتراكي. ونشر تقريرا عن تلك المقابلة في صحيفة «لوموند». وأبرز هذا التقرير أن هولاند لديه رؤية واضحة لأنشطته السياسية.

«اليسار يجب أن يعبد الطريق ويبتكر سياسات جديدة. التقدم ممكن، وربما يكون المستقبل ما زال مصدرا لتحقيق الأهداف بالنسبة للأجيال القادمة. إن الإنسانية ما زالت حية. وعلينا أن نكون في حالة استحضار لتاريخنا وابتكار لمستقبلنا. وفي إطار هذا المنظور التاريخي، أكتب مشروعي الرئاسي: أرغب في أن أكون تابعا ومجددا».. هذا ما جاء على لسان هولاند في مقابلته مع إدغار مورين.

إضافة إلى ذلك، فإن هولاند دائما ما أدرك أن النظرية ليست كافية وحدها، إذ إنه من المهم أن يتم تطبيق نظريته عمليا. اختار ببراعة نمط حياة شعبيا. ففي بداية العام، كان هولاند ما زال يجوب أنحاء باريس مستقلا دراجته ذات العجلات الثلاث، وأشار أحد أعضاء البرلمان إلى أنه يبدو «أقرب إلى عامل توصيل» منه إلى رئيس قادم للبلاد.

وعند سؤاله عن المخاوف من كونه على سجيته بدرجة مبالغ فيها يصعب معها أن يصبح رئيسا، أجاب هولاند قائلا: «الجميع يقول إن فرنسوا ميتران كانت لديه كاريزما مميزة. لكن قبل أن يصبح رئيسا، دأبوا على الإشارة إليه بوصفه بأنه لا يهتم بمظهره وأنه عتيق الطراز ويقول إنه أدرك أنه ليس ثمة شيء يتعلق بالاقتصاد.. حتى اليوم الذي تم انتخابه فيه. يعرف هذا بالانتخاب العام. عندما يتم انتخابك، تصبح الشخص الذي يرمز لفرنسا. يغير هذا كل شيء».

أعتقد أن فشل ساركوزي في الانتخابات ربما يمثل خسارة بالنسبة لإسرائيل. نشر أنشيل فيفر مقالا في صحيفة «هآرتس»، يشرح فيه أن «ساركوزي سوف يشكل خسارة بالنسبة لإسرائيل، حيث دائما ما كان ينظر إليه كرئيس ودود من دون كم هائل من المطالب».

على الجانب الآخر، سوف تسعى الحكومة الجديدة في فرنسا إلى ما فيه صالح إيران. مثلما عرفنا، تعتبر فرنسا أحد أهم اللاعبين في مجموعة «5 + 1» التي تجري مفاوضات مع إيران.

أعتقد أن الرسالة الأساسية التي بعثت بها الانتخابات الفرنسية كانت غاية في الوضوح: يجب أن يستمع جميع القادة والرؤساء إلى صوت الشارع!

لا أقول إن عليهم قيادة دراجات بثلاث عجلات، لكني أرغب في التأكيد على أهمية الاستماع إلى الشعب، والتحدث مع المفكرين والفلاسفة. يجب أن يضعوا في حسبانهم دائما أن موقفهم شبه مزعزع، وأنهم لن يبقوا في السلطة للأبد.

إن هولاند لم يذب مثل مكعب سكر، لكنه حلّى أفواه الناخبين!